تحرير الغوطة في أبعاده الاستراتيجية
تنطوي معركة تحرير الغوطة الشرقية من إرهاب التنظيمات المسلحة على أهمية إستراتيجية لجهة استماتة الدول الداعمة لهذه التنظيمات على إبقائها ورقة ضغط على سورية. وبالتالي فإن إنهاء الوجود الإرهابي في الغوطة يعني نهاية وجود تنظيم القاعدة وتفرعاته بمختلف مسمياتها وذلك تمهيداً لإعادة مؤسسات الدولة إليها، وتأهيل البنى التحتية فيها بغية عودة السكان إلى حياتهم الطبيعية بعد سبعة أعوام من الظلم والقهر والتجويع على أيدي الإرهابيين. كل هذه الإنجازات العظيمة المتتالية التي حققها الجيش العربي السوري في مختلف المناطق ما كانت لتتحقق لولا صموده وبطولاته وتضحياته، ولولا تضحيات الشهداء الذين رووا تراب الوطن المقدس بدمائهم الطاهرة.
وبإنجاز تحرير الغوطة الذي يضاف إلى سلسلة طويلة من الانتصارات على مدار سنوات الحرب أصبح الجيش السوري أقوى من أي وقت مضى، بشهادة كبار المحللين والخبراء العسكريين الغربيين، بعد أن خاض أشرس المعارك واكتسب الخبرة في خوض حرب الشوارع والعصابات ولم يضعف أو ينهز يوماً.
ورغم ما حققه الجيش السوري من انتصارات لا تزال وسائل الإعلام الغربية المشبوهة وبعض الناطقة بالعربية تتجاهل صور المدنيين الخارجين من بلدات الغوطة عبر الممرات الآمنة ولجوئهم إليه والاحتماء به، كما تجاهلت صور المظاهرات التي خرجت في بلدات الغوطة للمطالبة بخروج الإرهابيين، ودخول الجيش لبسط الأمن والاستقرار فيها.
ذلك بالمجمل يؤكد أن الحرب الشرسة التي تتعرض لها سورية منذ أكثر من سبعة أعوام هي من نوع مختلف عن كل الحروب التي شهدناها خلال المائة عام الفائتة. حرب من حروب الجيل الرابع، أو الحروب بالوكالة التي لا تخوضها الدول الغربية مباشرة بجيوشها وإنما عبر أدواتها في الداخل من خلال تقديم كل أشكال الدعم المادي واللوجستي لها وتزويدها بمختلف أنواع الأسلحة، إضافة إلى إرسال المرتزقة من كل أصقاع الأرض بعد تدريبهم. فقبل هذه المرحلة ومنذ الحرب العالمية الأولى كنا أمام نوعين من الحروب وهما الحروب التقليدية الكلاسيكية التي تحصل بين جيوش نظامية على جبهات قتال تعتمد التقدم عبر أنساق متتالية في الهجوم وعلى خطوط صد متتالية في الدفاع، إضافة إلى عمليات الإنزال خلف الخطوط وهي بحد ذاتها عمليات مرتبطة بعمق الجبهات ومدى تماسكها وطبيعة الثغرات فيها ولم تخرج في أي حال لتشكل نمطاً خاصاً مستقلاً أو منعزلاً عن سياق العمليات الشاملة.
أما النوع الثاني من الحروب فهو “حرب العصابات” والتي تحمل أسماء أخرى تختلف بين مكان وآخر وتتسم بأنماط متقاربة لجهة التخفي والسرية وطبيعة العمليات بهدف رئيسي هو الاستنزاف. وفي سورية كان الوضع مختلفاً حيث الحرب اللانمطية بكل ما تعنيه الكلمة، فمنذ بداية الحرب كنا أمام تنوع كبير في العمليات الإرهابية التي استهدفت الجيش السوري ومواقعه وثكناته سواء من خلال الهجمات المباشرة أو التفجيرات أو الكمائن. وبعد أن استطاعت قواتنا امتصاص الصدمة بدأت بتوجيه ضربات لمعاقل الإرهاب على كامل الجغرافيا السورية، حيث كنا بعد تحرير حي باب عمرو في حمص نهاية آذار 2013 أمام عملية تحرير أخرى في القصير بعد ثلاثة أشهر، لتبدأ مرحلة الهجوم المضاد والهادفة إلى إنهاء مفاعيل الخطة الأخطر على سورية وهي ربط القلمون بجبال الحرمون على كامل خط الحدود اللبنانية – السورية، وهي الخطة التي دُفنت نهائياً مع تنظيف كامل خط الحدود بين لبنان وسورية.
خلال مرحلة الهجوم المضاد بدا الجيش السوري بمرحلة تثبيت نهائية وكاملة لمنطقة الثقل الإستراتيجي للدولة، والتي تضم المدن الكبرى وطرقات الربط بينها وغالبية المنشآت الحيوية والبنية الأساسية مع الوصول إلى وضع الجماعات الإرهابية في أربع مناطق اثنتان منها محاصرة بالكامل: الغوطة الشرقية التي توشك على نهاية الوجود المسلح فيها بعد طرد إرهابيي جيش الإسلام منها، ومنطقة الرستن وتلبيسة من جهة، ومنطقتان تم تثبيت ما يكفي من القوات عند خطوط التماس فيهما لشل أي قدرات هجومية للجماعات المسلحة فيها: الجنوب السوري وإدلب، ما يعني أن الجيش السوري بات قادراً أكثر من أي وقت مضى على تنظيم قوات احتياطية وقوات اقتحام.
إذاً نحن أمام مرحلة جديدة تؤكد من خلال شكل الميدان وطبيعة العمليات أن كل ما كان يقال عن إنهاك الجيش، بعد ما يقارب من ثمان سنوات من الحرب، يتعارض مع طبيعة وشكل واتجاه العمليات ليذهب باتجاه تأكيد أن هناك الكثير من الدروس والعبر التي تمت الاستفادة منها في فهم طبيعة الحرب وأنماطها دون أن ننكر دور الحلفاء في العمليات للإسراع في ضرب الإرهاب والقضاء عليه أينما وجد، الأمر الذي سينعكس إيجاباً في الميدان خلال المرحلة القادمة.
هيفاء علي