التأريخ الجديد: ما قبل “الغوطة” وما بعدها
سواء كان تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب “قريباً جداً من سورية” مناورة سياسية ابتزازية لما تبقى من أموال النفط العربي، أم قراراً استراتيجياً يعترف بالهزيمة ما بعد “الغوطة”، أو بداية لخطة جديدة تحضّرها واشنطن لسفك المزيد من الدماء في المنطقة كما يقول البعض، فإن الحقيقة الواضحة في هذه المرحلة من الحرب في سورية وعليها أن ما بعد “الغوطة” ليس كما قبلها، لأنها حدث مفصلي فارق يجب أخذه بعين الاعتبار والبناء عليه، أقله حين تحين لحظة تأريخ المشهد الجيوسياسي القادم في المنطقة.
بهذا المعنى يبدو التصريح الأمريكي، بغض النظر عن جدّيته، أول وقائع تاريخ ما بعد “الغوطة”، فيما يتمثّل ثانيها بإقرار جهات عدة، وضمنها بعض “ولاة الأمر” العرب، بخسارة الحرب ضد الدولة السورية ومؤسساتها الرسمية والاستعداد لـ”تكويعة” قادمة في وقت ليس ببعيد، وثالثها، ارتفاع حدة “بكائيات” البعض الآخر بسبب “القرار الترامبي الخاطئ”، على حد اعتقادهم، لأن “وجود القوات الأميركية داخل سورية سيمكّن واشنطن من إبداء الرأي في مستقبل هذا البلد”، وبالتالي مطالبة “ترامب” بالاستمرار في احتلال أرض عربية “لفترة متوسطة على الأقل، إن لم يكن لفترة طويلة”!!، وتلك “نصيحة” فاجعة بقدر ما هي فاضحة تصدر عن “ذات ملحقة” تتصف بقدر هائل من التبعية والدونية لمن يجوز وصفهم اليوم بـ “ثكالى الغوطة” ممن اعتادوا أن يكون لواشنطن، وغيرها، الرأي والقرار النهائي في مستقبل بلادهم وفي معركة العروش المذهّبة الداخلية دون أن يعتبروا من الحكمة المأثورة التي تقول إن “المتغطي بالأمريكان عريان”.
ولأن “الذات الملحقة”، كما يقول المتكلمون، إمارة على الانحطاط وأمّارة بالسوء في الوقت ذاته، تحركت الأقلام المأمورة التي تستخدم بلاغة “البترودولار” حصراً في “إبداعاتها”، وعلى خطا “كبيرهم” الذي أسف سابقاً لفقدان واشنطن “دورها الأخلاقي” لأنها لم تقصف دمشق، شعر أحدهم بـ “التشاؤم” من تصريح ترامب، وخاف آخر على ما سيجره هذا القرار “على واشنطن نفسها من ضعف في الموقع وفي القدرة على التأثير” لأنه “سيضاعف انعدام الثقة بين واشنطن وبين كل جماعات المنطقة”، ثم غاص عميقاً في التحليل السياسي ليكتشف أن “لا صديق لواشنطن في الشرق الأوسط إلا تل أبيب”..!!، لكن الأغرب من كل ما سبق كان تصريح أحد الأتباع المحليين أن فصيله “لم يُبلَّغ بأي خطة للانسحاب الأميركي”، وكأنه يتحدث من موقع الند للند علماً أن “ترامب” لم يبلّغ أعضاء في إدارته بقراره هذا فكيف يبلّغ أداة محلية صغيرة بقرار استراتيجي مثل هذا بعد أن سبق له أن تخلى عنها للأتراك في عفرين؟!!، سيما وأنه يعرف، وهو التاجر المخاتل، أنه يمكن بيع التراجع عن قراره هذا بمليارات الدولارات لعرب الردة على مبدأ ادفعوا أكثر لنبقى أطول، أو سنترككم تلعقون وحدكم جراح الخسارة في سورية.
وإذا كان من غير الممكن لنا كسوريين خبرنا الريّاء الأمريكي أن نركن إلى تصريح “ترامب”، لأسباب عدة، منها أن “ما يحدث على الأرض يدل على مضي واشنطن قدماً في ترسيخ وجودها” كما قال “لافروف”، خاصة وأن الاحتلال الأمريكي يعرقل، بحسب الواشنطن بوست، “دفع مسار الحل السياسي في سورية” وبالتالي يساهم في إبقاء النار مشتعلة، وتلك مصلحة “إسرائيلية” لا يمكن التهوين منها ومن تأثيرها على القرار الأمريكي فيما يخص منطقتنا، إلا أن التصريح بحد ذاته مؤشّر على مرحلة ما بعد “الغوطة”، التي وضعت “ترامب”، وإدارته، بصورة جدية وحاسمة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الخروج تحت أي ذريعة يراها ملائمة لحفظ ماء وجه قوة عظمى وتجاهل مصالح الحلفاء المحليين، أو الدخول كأصيل – إذا أراد الاستمرار في المعركة – بعد خسارة الوكيل، وبالتالي يتوجب عليه تحمّل الخسائر المباشرة، الأمر الذي بدأت بوادره خلال الأيام الماضية بعمليات مقاومة شعبية في شرق الفرات والرقة.. وما بعد “الغوطة” أعظم.
أحمد حسن