المعنى الفلسفي للهوية .. المفارقات والتناقضات
د. عماد فوزي شُعيبي – كاتب وباحث سوري
درج العاملون على التعريفات إدراج مفهوم الهوية بما يقارب هذا التعريف النمطي، وهو: (الهوية هو مصطلح يستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات مثل الهوية الوطنية أو الهوية الثقافية) كما يُستخدم المصطلح خصوصاً في علم الاجتماع وعلم النفس، وتلتفت إليه الأنظار بشكل كبير في علم النفس الاجتماعي، وقد جاء مصطلح الهوية في اللغة العربية من كلمة: (هو).
فالهوية هي مجمل السمات التي تميز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها، وكل منها يحمل عدة عناصر في هويته، فعناصر الهوية هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة وبعضها الآخر في مرحلة أخرى.
والهوية الشخصية تعرف شخصاً بشكله واسمه وصفاته وجنسيته وعمره وتاريخ ميلاده، الهوية الجمعية، وطنية أو قومية، تدل على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر، تميزهم عن مجموعات أخرى، كما يتشابه أفراد مجموعة ما بالميزات الأساسية التي كونتهم كمجموعة، وربما يختلفون في عناصر أخرى، لكنها -كما يُزعم في هذا التعريف- لا تؤثر على كونهم مجموعة. فما يجمع الشعب الهندي مثلاً هو وجودهم في وطن واحد ولهم تاريخ طويل مشترك، ولهم في العصر الحديث دولة واحدة ومواطنة واحدة، كل هذا يجعل منهم شعباً هندياً متمايزاً رغم أنهم يختلفون فيما بينهم في الأديان واللغات وأمور أخرى.
وبالتالي، يمكن القول: إن العناصر التي يمكنها بلورة هوية جمعية هي كثيرة، أهمها اشتراك الشعب أو المجموعة في: الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، الطموح وغيرها.
ولقد تطور عدد من الهويات الوطنية أو القومية بشكل طبيعي عبر التاريخ، فيما برزت هويات جديدة نتيجة أحداث أو صراعات أو تغيرات تاريخية، وهناك قسم من الهويات تبلور على أساس النقيض لهوية أخرى، وهناك تيارات عصرية تنادي بنظرة حداثية إلى الهوية وتدعو إلى إلغاء الهوية الوطنية أو الهوية القومية.
لكن الهويّة في الفلسفة تذهب إلى حقيقة الشيء، والتي تشتمل على صفاته الجوهريّة التي تميّزه عن غيره، كما أنها خاصيّة مطابقة الشيء لنفسه أو مثيله، ومن هنا فإنّ الهويّة لبلد ما تعتبر القدر الثابت والجوهري والمشترك من الميّزات والسمات العامة التي تميّز هذا البلد عن ذاك، وفي هذا التعريف يبدأ التناقض الكبير فلسفياً؛ إذ لا توجد حقيقة، بل توجد محض صحائح؛ هي زاوية رؤية الشيء.
وعليه فإن مفهوم الهوية يبدأ فعليّاً من تعريف ملتبس يحمل سمة الإطلاق، وهي سمة لا تطابق عالم المعرفة المابعد حداثية، التي تشكل الفيزياء الكوانتية أحد أهم مرجعياتها وتجلياتها كما أن أغلب تعريفات الهوية العامة والفلسفية هي تعريفات إشكالية، تعقّد الأمر بدلاً من تيسيره.
المفارقات والتناقضات:
إن هذه الإشكالية تبدو لنا أعقد من هذا التبسيط المتداول (من داخل الصندوق) فأن تكون الهويّة من “هو” بمعنى الفرد الذي يتمايز عن غيره بالتكوين والملامح والتفكير، بمعنى البصمة الشخصية Situated Knower لا يعني سحب هذا التمايز الفردي على المجموعات؛ ذلك أن افتراض سمات مشتركة جمعيّة للبشر في تزيّدٍ وسحب ميكانيكي لما هو فرديّ على ما هو جمعيّ. وكما أن المفاهيم الحديثة لا تعترف بأن المجموع هو جمع لأفراده، كذلك فإن سمات الأفراد لا تنسحب على التشكيلات الجمعيّة لغياب مفهوم “العلاقة” الذي ينشئ حالة من السمات الجمعيّة مختلفة عن الـ (هو) الفردي.
وعلى هذا فإن السمات المطلقة لمجموعة بشرية هي إما من موروث ما قبل الحداثة وما قبل الأمة، أو من موروث الفاشية والنازية كمشروعين للتمايز الجمعي.
صحيح أن هذا لا يلغي الهويات الوطنيّة دفعة واحدة، لكنه يضفي عليها صبغة أنها (تزاوج) ما بين مفاهيم ما قبل حداثية تسمي (هو) الجماعة؛ كالقبيلة والعشيرة، والمفاهيم الحداثيّة وعلى رأسها الدولة، فكان مفهوم الدولة-الأمة، وهو مفهوم جمع بصورة تضايفيّة “Complimented” بين حالتين، إحداهما ما قبل حداثية تمايزيّة دعيت بالأمة وأخرى حداثية هي الدولة.
وبدا التناقض واضحاً، فالأمة المتولّدة من التمايز للـ”هو” عن ما قبل الدولة (القبيلة والعشيرة) جُمعت مع الدولة الحداثوية “المتأتيّة من مفهوم المصلحة”، وسرعان ما تبدى ذلك بمفارقة (الجنسيّة) كحلٍ تضايفي مُفارق بدوره.
فأن تهاجر من أمة-دولة إلى أمة-دولة أخرى أو تطلب جنسيتها بحكم الإقامة لسنين أو الزواج من مواطن أقدم، فإنك تكتسبها أي تكتسب معنى الانتماء إلى الدولة، وتحمل “هويتها” وبالتالي تنتقل من الدولة إلى الأمة!. ويمكن لك أن تحتفظ بهويتين؛ أي انتمائين، وبالرغم من اغترابك فإنك تمارس هويتك وتعلن الدفاع عنها رغم ازدواجيّة أو كثرة الهويات، ما يرفع عن الهوية صفة الإطلاقية، فهي هوية “مُندرجةٌ في سياق”، وبالتالي، فإن كلّ تعيّناتها المتأرجحة بين الوجدانيّة (الشعوريّة) والمصلحية تبدو في حالة بيْنيّة.
السلفيّة الهوياتيّة:
إذا كان للهوية أن تكون حداثية- وما بعد حداثية، فإنها يجب أن تكون فعلاً في الحاضر، متمدداً نحو المستقبل، لكن الهويات ما قبل الحداثية التي لا تجد قيمةً ودوراً (بذاتها) للفرد أو للجماعة في الحاضر وليس لديها غدٌ، سرعان ما تذهب بعيداً نحو الماضي فتطلب تعريفها منه بل وتتعيّن (باعتبارها ماهي … ليست أي بالنفي عبره)، فتنكص نحو الماضي وتمارس فعل السلفيّة، فتراها لا تملك حاضرها ولا مستقبلها، وتتجاوز رومانسيّة الحنين للماضي (النوستالجيا) إلى محاولة استعادته، فلا تملك ذلك، وكلما غدا هذا السراب بعيداً، بالغت هذه الهوية السلفيّة في شوفينيّتها، بل إنها كما هو الحال في بعض نماذج الهوية العربية تواجه الهوية الصهيونية السلفيّة المنشأ بسلفيّة موازية، رائزها كما هو حال عدوتها الماضي، أي إنها تتمنذج على مثال المتسلط-العدو.
إن استبطان السلفيّة الدينية في بنية بعض الهوية العربية، يُمنحها بنفس الوقت نفس ميزات تلك الهوية المتطرّفة، فيغدو عدم الاعتراف بالآخر مستبطناً فيها.
الجرح النرجسي للهوية:
عندما استُبيحت الهوية العربية من تلك الغربية وصولاً إلى مقابلتها الصهيونية، أُصيبت بعُصاب الأمّة الذي أوقف تطلعها إلى مستقبلها وأبقاها متعيّنة بتثبتها عند عدائها للغرب وشعورها المتعاظم بالقلق الوجودي إزاء عدوها الماثل (الصهيوني)، فعاند هذا التثبّت إمكانيّة تطور هذه الهوية بدلالة المستقبل، وبقيت في حالة التثبت في مواجهة الآخر وبدلاً من أن ترسم لنفسها صورة مستقبلية، استحضرت الماضي لمواجهة الحاضر، وبقيت تحكمها (عقدة الفشل) ولجأت إلى تقديس التراث وجعله مادة تعينها.
وهذا ما يفسر حالة العصاب في الهوية العربية تجاه الغرب، بالعداء والنظرية التآمرية العُصابية الحدّية، التي تستشعر بارانويّاً أنها موضع تهديد معتّق بالإلغاء، وأنها كي ما تتحقّق لابد لها من إلغاء الآخرين أو في أحسن الأحوال الشك الوسواسي منهم، وعلى التوازي نشأت نظرية كامنة في تعيينات الهوية العربية، ترى أن التواصل مع الهويات المناوئة يمثل خطراً يتأرجح بين الإلغاء المحتمل وصولاً إلى الذوبان في هويات الآخرين، وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير هذا الميل الضمني والعلني على إنشاء (غيتو) هوياتي! منغلق (مُدافع) باستمرار عن ذاته.
بينما يكمن الحل لتكوين هوية مستقبلية ببناء نظرية تواصل تشكّل فرصة للمثاقفة العالمية وصقل الهوية، والخروج من أوهام التحليل السلفي الذي رأى أن الهوية العربية-الإسلامية قد فقد نقاءها وعرقها الأزرق! بدخول الشعوبيّة إليها، وكأن دخول العلماء غير العرب (وكأن العرب عرق وليسوا فعلاً حضاريّاً) قد أضرّ بتلك الحضارة، أو كأن العرق الأزرق العربي هو وحده من بنى الحضارة بخلاف الآخرين (وهو سحبٌ ميكانيكي لعقدة الفشل) وإلغاء الآخر على تفسير الماضي بذاته، في ممارسة لحكمة! بيوريتانية شوفينية بأثر رجعيّ.
وكذلك فإن نظرية التواصل المقترحة تمهد السبيل أمام عدم الجزع المرضي من عالم ما بعد الحداثة وما بعدها، واعتبار العولمة (بُعبعاً)، مع أنّ العولمة دخلت كل الحياة العربية بدءاً من القنوات الفضائية وصولاً إلى الأجهزة الذكية وملايين تطبيقاتها العولمية التي أقلّها اندياحاً في العمق العولمي وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك تصرّ الهوية المُصابة بالجرح النرجسي على دفن رأسها بالتراب وعدم مواجهة هذا الواقع الذي يعولم الهويات.
وهنا يحضرنا خطاب مدير شركة نوكيا أثناء تسليمه الشركة مُباعة إلى ميكروسوفت: (إننا لم نرتكب خطأً لكننا لم نستطع أن ندرك حجم وسرعة المتغيرات، فانتهينا)، والواقع أن الهويات سرعان ما تنقرض إذا لم تتواصل مع الآخرين من موقع المُثاقفة، وإذا ما تثبّتت مرضيّاً عند الماضي، فالهوية التي ليست ليْنة ستُكسر وترمى، ولن تكون هوية متبلورة إذا لم تتجاوز تعيّنها كهوية سلبية محض؛ أي كهوية هي أنا لست الآخر، وهنا يتعزّز الشعور بالقيمة من خلال التمايز.
كما أن المعرفة برمتها صارت كونيّة، فلا منُتج معرفي يمكن ربطه بالهوية، فهو يتحرّر منها عودةً إلى ما كان عليه قبل الحداثة والدولة، لكنه يزيد على هذا بأنه (يشارك) الجميع بمنتجه، لهذا، ترسم المثاقفة هوية عالمية شاملة تغيّر مفهوم الهوية كما لم يحدث من قبل، وكونيّة المعرفة التي تراها الهويات المصابة بالجرح النرجسي خطراً على نقائية وتمايز واختلاف حالتها، تؤكد أن هذه الهويات مريضة وغير قابلة لدخول العصر ولا حتى للاستمرار، فهي تهدد نفسها إما بالتحنيط أو الموت المبستر (المعقّم).
وهنا يتأكد أن الحل هو بالمثاقفة مع العالم والتكيّف وامتلاك الليونة الكافية، وبأن نتعلم بأن الهوية أن نكون في المستقبل لا في الماضي، فكل من يرى هويته في الماضي ويتثبت عليها في الحاضر هو سلفيّ وماضويّ ولا مستقبل له، وينطبق عليه القول: إن انقراض الديناصور حدث بسبب أن جسمه كبر بينما بقي عقله صغيراً لا يتحمّل القدرة على السيطرة على تنامي الجسم.
وكلما قرأنا السجال حول أقدمية لغة على أخرى وقدسيّة لغة بالقياس إلى غيرها، ندرك حجم مأزق الهوية، لأن أمةً لا تدرك أن اللغات تتثاقف “acculturate” وتأخذ من بعضها، وأنها أولاً وأخيراً صناعة إنسانية ومحضُ أداةٍ للتفاهم والتواصل البشريين، هي أمة ماضويّة تعيش في الماضي وهويتها ليست تنظر إلى المستقبل، فهي أمة تعيش على الأساطير والأوهام، لأن لا أحدَ يستطيع أن يثبت الماضي لأن أدلته (متقطّعة) ولا اتصال بينها، ولأن الإنسان التاريخيّ هو الذي يملأ الفراغات الواسعة من مخّه بالاستقراء والتخيل والتفضيل…ولهذا ابستولوجياً ثمة شكّ ونقد عميق لعلم التاريخ، ولهذا أيضاً، فالهوية التي تتعيّن بالماضويات مشكوك بأصولها وجذورها معرفيّاً ولا تهيئ نفسها لهوية مثاقفةٍ.
وهنا نصل إلى أن عدم تبلور هوية عصريّة هو لأن الماضي يحكمها لا المستقبل.
وبالتالي، إن المبالغة في الدفاع عن الهوية يأسرها، ولا يجعلها تتطور وتتعايش وتتثاقف…فالهويات الضعيفة وحدها التي تبتلعها العولمة، كما أن الهويات المُحاطة بهذا الكمّ من التوجس الوسواسي لا يدخلها العصر، وهي لا تدخل إلا بالتفاعل، ليس هذا فحسب، فالهوية المُحاطة تبقى في موقع دفاعي يجعلها نُهباً لنظريات المؤامرة وثقافة (قالوا له) ومنطق الوصاية.
إن الهوية ديناميكية لا تنتهي ولا تتبلور، إنها تصير، تتعايش مع الأخريات وتتثاقف، تعلّم وتتعلّم، ثقافتها تفرّق وتوحِّد، كانت تفرّق في عهد الحداثة لكنها في عصر ما بعد الحداثة توحّد، كانت تفرّد أو تتوهم التفرد بالعزلة عن محيط عالمي، وهي الآن تنوّع في تسامح وقبول كبيرين مع الآخرين، كانت تتوهّم أنها يمكن أن تعيش وحدها لتجد نفسها في تلاطم أمواج الجميع.
كما لا يضير الهوية أن تدخل عالم التداول؛ وبعيداً من عُصاب العولمة، فهي لا تكون عصرية إلا إذا أصبحت تداوليّة؛ أي ديناميكية خلاّقة، وقد ينتابها ما انتاب غيرها في هذا العصر من عدم الموثوقية ومن عدم التعيين؛ لكنها لا تتعيّن هنا بما (هو…ليس) إنما بتعدديّتها وتضايفاتها بحيث يغدو التعيين هنا جمعاً من (ما هو ليس) مع ما هو المتضايف مع (الهو الآخر) ذلك أن الخوف من الآخرين يعني في عالم اليوم عدم التعيّن بالأساس لأن ثورة التداول المعرفي يطيح بتعيّن الآخر أيضاً عندما يعتمد (ما هو…ليس) من طرفه أيضاً.
الهوية تصير بنا وبالآخرين، ولهذا فهي مستقبليّة وليست ماضوية، بل بالعكس تتعزز سماتها الخاصة المنفتحة بالجميع، حيث يترسخ الماضي في المستقبل باعتباره جذراً لشجرة الهوية، لا يعني وجوده إلغاء الساق والأوراق والأزهار المستقبية، وإن كل النقد الموجه لماضوية الهوية العربية، لا يعني اجتثاثها، إنما يعني تحطيم ماضوية التعامل معها.
نعم، الهوية ليست كياناً يعطى دفعةً واحدةً وإلى الأبد، إنها حقيقة تولد وتنمو وتكون وتتغاير، وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب، وفق ما قاله اليكس ميكيشللي في كتابه (الهوية) وهي واهمة عندما يحكمها منطق الثنائيات؛ (إما نحن…أو هم)، فلا نحن نبقى للأبد كما يُصوّر لنا منطقنا النرجسي المجروح ولا هم كذلك، لأننا نحن وهم نتعين مرات عديدة في التاريخ وفي المستقبل.
إن الهوية (سيرورة) تتشكل في سياق، وليست حقيقةً منتهية؛ إنها ذات منطق خاص تتماهى مع الآخرين وتتمثّل منهم وتتثاقف وإياهم وتضيف إليها وتُنقِص وتصطفي وتنسف و تبني، وإن نضج الهوية لا يعني نهايتها بل يعني أنها بلغت سن الرشد major أي أصبحت قاسماً مشتركاً للأكثرية، لكن الذين لا يتفقون مع الأكثرية هم minor أي الذين يستحقون الرعاية لأنهم ليسوا من الأكثرية فهم الأقلية، ولهذا فالهويات التي تعيش في كنف الهوية الأكثرية تحتاج إلى رعاية خاصة، لا إلى توجّس، لأن المتوجس هو الأقلوي لا الأكثروي. فهو يُعادي تدجينه وتطبيعه ويمتلك حسّ الشعور بالتهديد الوجوديّ والقلق ويحتاج من الهويات المتبلورة إلى الرعاية والتميّز والامتيازات، لكن الخطورة تكمن في أن هويات الأكثرية لا تكون في الأزمات متبلورة كفاية وغير ناضجة ومتوترة فتتصادم مع الهويات الأقلوية بدلاً من أن ترعاها، لأنها في حالات الجرح النرجسي والبحث عن الذات تكون أكثروية في وضع أقلّويّ.
الهوية وهاجس الانقطاع الزمني:
إن الذين لا يعيشون الهوية في المستقبل يكون هاجسهم خشية الانقطاع التاريخي، ويودون الاستمرارية الزمنية، خشية فقدان الوجود المتموضع باعتباره هوية ذات جذور.
الهوية والمنظومة الثقافية والذهنية العامة:
ترسم المنظومة الثقافية والذهنية العامة طبيعة الهوية في حقبة بعينها، فإذا اتسمت بأنها ذات أفق مغلق ومتشدد ومتعصّب، يعيش التشكيل الجمعي ويتداول بشكل واسع صورة هوية على شاكلته، فالمنظومات الجمعيّة التي ترفض الآخر وتعيش في الماضي وتؤله الأفراد والمعارف القديمة لا تستطيع أن تنتج معرفة إلاّ كذلك، وستضفي على هويتها كل ما يتأتى عن تلك البنى المعرفيّة، وإن بنى الإلغاد هويتها عنصريّة، والبنى الطائفية هويتها ما قبل الدولة وما قبل الأمة، والبنى المجروحة نرجسياً تنتج هوية ملحوفة بكل تأثيرات نظرية المؤامرة، فإذا كانت الهوية تتعين ثقافياً وجماعياً وفردياً فإن المنظومة والذهنية العامة تشل الأولى وتجتاح الثانية بأكثريتها وتجعل الثالثة استثناء بتمايز بعض أفرادها.
تتيح لنا اللغات الأخرى أن نفهم المصطلحات بشكل مختلف عن اللغة العربية التي لم تعد تنتج مفاهيم ذات عمق فلسفي منذ مئات السنين ويتمسك بماضيها السلفيون لغوياً بطريقة تبعث على الضحك والرثاء واليأس معاً.
ولنلاحظ مفاهيم الهوية باللغة الفرنسية
” Moi- je – soi ”
وكل منها يعني الأنا، لكن مصطلح “sujet” يعني الأنا العارفة أو الذات، وإذا أردنا أن نعينها سنقول “Moi” هي الأنا كما نتقمصها من الآخرين وأفكارهم، و” Je” الأنا العفوية التي تتأتى من طبيعتنا، و”Soi” الأنا بتفاعلها بين “je” و”Moi” بوعي الأنا لذاتها بينهما، أي هي الأنا الواعية التي تتمايز عن التي نتقمصها بناء على ما تسمح له طبيعتنا، أما الذات “sujet” فهي كل أنواع الأنا السابقة عندما تتموضع في سياق؛ أي عندما تصبح فاعلاً.
باختصار كل ما سبق يحدد هويتنا، فالـ “Moi” هي ما يتداوله الناس من حولنا وهي الأنا الجمعية التي تحدد ما إذا كنا بهوية منفتحة أو متعصّبة، و الـ “Je” تحدد قدرتنا على أن نتبنى ما يفرضه المحيط علينا و “Soi” هي التي تجعلنا نتفاعل مع ما يفرض علينا من هوية جماعية، والذات “Sujet” هي التي تتموضع كفاعل فتنتج هوية غير المتأتية من ال “Moi” الجماعية، من جانب آخر، نحن ضحايا ال “Moi” ومحدودون بالـ “Je” وصراعيون بالـ “Soi”، ونادراً ما يُسمح لنا أن نكون فاعلين “Sujet”.
الهويات في الدول الديموقراطية كل ما سبق، لكنها تعطي أهمية لدور الذوات الفاعلة في فعل إنتاج هوية ذات (سيرورة) أي متطورة ومتحولة في تاريخ (فعل) البشر وأدواتهم المعرفية والابتكارية، ولهذا فإن هوية الأمة لا يمكن أن تتبستر وتُعقَّم و تُحنَّط بمفاهيم محددة ماضوية أكانت أم نرجسيّة، وعليه، لا قيمةَ لهويّة ليست متموضعة في سياق التاريخ، وليست متطورة في السياق.
وبالتالي، هوياتنا على الأغلب “Moi” وهذا وضع كارثيّ، فهي ما يحدد مفهوم الانتماء ويلغي الذات أو يقلّصها، فالهويات على الـ “Moi” تُدمّر الفاعلين والفاعلية، وتمنع تطور الهوية ذاتها.
الهوية السورية:
لا تختلف الهوية السورية عن المأزق الذي تناولناه إلا من حيثُ أن الحرب فتحت المجال أمام مواجهة السوريين لعدة أمور دفعة واحدة، وإن كانوا حتى الآن لم يحلوا مشكلة الهوية بعد ولا يبدو أنهم بسبب غبار الحرب ونتائجها مستعدون لمواجهتها، ذلك أن مواجهتها تحتاج إلى ظروف مختلفة؛ إما انبساطية؛ أي في راحة الأمة، أو في وضع تناذر مشابه لما بعد حرب الثلاثين عاماً أي في ظروف مشابهة لقصة ويستفاليا، وهو أمر غير متحقق بعد.
لهذا يتشدد السوريون في قضية هويتهم، وخاصة خلال الحرب الطويلة، وبعدها أيضاً سيستمرون في نفس الأداء لأن التداخلات الخارجية قسّت مفهوم الهوية، وإن حجم الرضّات التي رافقت تلك الحرب راوحت مفهوم الهوية عند البعض بين غضب من سلوك أنظمة عربية وصعود هويات أثنية طائفية وعرقية، وهي كلها تناذرات الصراع الذي فُرّغ من مضمون الفعل السوري المحض إلى تداخلات مع الإقليم ومع ما هو دولي، ما حرم التجربة الصراعية بمعناها التاريخي هنا من أي تراكم معرفي يضاف إلى مفهوم الهوية ويرتقي به، أو يدخله في لغة مختلفة عما درج عليه، لأن ما حدث هو صعود الهويات الصادمة والمُذرِّرة، أي صعود الهويات الماضوية ورد الفعلية على حساب تلك المستقبلية، إذ أن هذه الحرب لا توحي بتراكم تاريخي يضع الهوية في ملكوت المستقبل، بل العكس يثبتها على الماضي وردود الفعل والتشظّي.
لقد قررنا أن نكتب عن مأزق الهوية مفهوميّاً وبالتالي فلسفيّاً لا عن الهوية السورية لأننا على قناعة بأن الحديث عن الهوية في الأزمات مثلوم ومحكوم بمنطق الهوية المجروحة نرجسياً، فالأمم بحاجة على مفترق طرقها إلى الوعي الفلسفي بهويتها لا إلى تجاذب الغطاء تكريساً موقف سياسيّ دون آخر.
> جرى تقديم هذه الدراسة في مؤتمر “الهوية الوطنية: قراءات ومراجعات في ضوء الأزمة السورية” الذي نظمه مركز دمشق للأبحاث والدراسات في كانون الثاني 2018.