عنب دوماني (4)
د. نضال الصالح
وما إن بلغت ميسون آخر كلمة من قول القلانسي، حتى رددت لنفسها ضارعة: “فمتى سيكون ذلك يا ربّ؟”، وكانت تعني أن يكون ذلك الرعد القاصف والبرق الخاطف و.. كما وصف القلانسيّ، فتتوقف القذائف التي يرسلها أبناء الغدرة، الظلمة، من غير مكان في غوطة دمشق، إلى غير مكان في دمشق، والتي تسّاقط خبط عشواء، فتضع أقدار الناس، رجالاً ونساء وأطفالاً، فوق قرنيّ ثور هائج يترنّح ذات اليمين وذات الشمال.
وبينما مهيار يتوكأ جسده، وينضو عنه غبار الحزن الذي ازدحم عليه وهو يستعيد ما كان وأسرته يخاتلان من الرصاص، رصاص القنّاص الذي لم يكن أحد يعرف مكانه في البلدة، والذي كان يطارد كلّ ذي روح يحاول مغادرة دوما، وجدت ميسون نفسها وهي تحيطه بمطلق ذراعيها، بل تأخذه إلى صدرها كلّه، وتلتصق به حتى تكاد تكونه، ثمّ تجلسه على الأرض من جديد، وتخرج من حقيبتها منديلاً مندّى بعطر خفيف، وتمسح جبينه، وخديه، بينما كفّها الأخرى تسند عنقه، وتلهث بعينين مرهقتين بالقلق وراء الصفرة التي عادت، فافترست السمرة الباذخة التي طالما تمنّت، في سرّ السرّ من أعماق روحها، لو تنهل من كلّ نقطة من نهر الغواية المتدفق في خلاياها جميعاً.
تناهض مهيار بأقصى ما يستطيع من القوة وقد تجمّع حولهما، ميسون وهو، روّاد المكتبة وموظفوها، ثمّ أسلم معظم جسده لذراعي ميسون، وما تبقى منه لزميل لهما، وفي عينيه تصطرع صورتان: صورة ذلك الفجر الغاشم الذي غادر، وأسرته، فيه مدينته دوما، وصورة ميسون وهي تغمره بما لم يكن يقدّر من الخوف عليه، بل بذلك الدفء الذي كان يصّاعد من حرير كفّيها، فيتمنى لو أنّه لا يشفى من ذلك الوهن الذي غزا جسده، فأقعده الأرض.
في البيت، في المزة ستة وثمانين حيث لجأت أسرة مهيار، كانت أمّ مهيار تصغي إلى ابنها وهو يحدّثها عن ميسون، ولم تكن الأم، وهي ترهف روحها لكلّ كلمة، تردّد في سرّها سوى عبارة واحدة: “الله يجعلها من نصيبك يا ابني”، وكأنّ مهيار كان يسمع ما تبتّل أمه من الدعاء، فيردّد في سرّه عبارة واحدة: “كيف تصير يا أمّي وبيننا قلاع؟”، وكان يقصد غير فارق بين أسرتيهما، فتستعيد الأمّ قوله تعالى وكأنها تسمع سؤاله: “وما ذلك على الله بعزيز”.
أسبوع بتمامه ومهيار طريح الفراش في زاوية الغرفة الضيقة والشقيقة وحدها لغرفة ثانية في البيت كلّه، وإلى جواره الأوراق المحتشدة بغير معلومة وغير قول ممّا نقل وميسون من كتب التاريخ عن الغوطة، وعن دوما على نحو خاص، وممّا استوقفه وهو يقرأ أنّ السكن العشوائي بلغ في السنوات الأخيرة من العقد السابق ما يزيد على سبعة وسبعين بالمئة من مساحة دوما، ثمّ أخذ يستعيد معالم مدينته التي لم يكن يعرف، ولم يكن ليخطر له يوماً أن يعرف، لأنه لم يكن يعنيه من أمر سوى تفوّقه في الدراسة، والدراسة وحدها…… (يتبع).