ثقافةصحيفة البعث

قراءة نقدية في ديوان “حررّيني من قبضتكِ”

 

الشعر فن يحتاج إلى الوقائع واللغة والخيال الخارق والتأمل لتفسير الحياة والتعبير عن خفاياها من خلال موقف أو لحظة توهج شعري. تمثل قصائد المجموعة الشعرية “حرريني من قبضتك” للشاعر طلال الغوار، تشكيلات جمالية تضج بالصور والأخيلة، مصدرها الذات الشاعرة التي تمثل نقطة تلتقي عندها وتتقاطع مختلف أشكال الفعل الإبداعي الذي يتم تصريفه في فيض جمالي شفاف.
في قصيدة “المفترق”في ص 37 يقول:
“من أجلِ ماذا/امتلأتْ/نوافذكَ بالغيبِ/وتركتَ عراءكَ/ينبتُ في زنبقةٍ/وأنتَ تقشّرُ/أيّامكَ/بالانتظار/من أجلِ ماذا/تلمُّ شظايا غنائكَ المتكسّرِ/بحنجرةٍ مثقوبةٍ”.
تلوذ نصوص الشاعر الغوار بجملة من المكونات والسمات المخصوصة من اجل بناء محتمله التعبيري الحداثي، وفق تعاقد ضمني يجعل القارئ يقبل على التعامل مع هذه النصوص، لذلك نجد أن تفاعل القارئ مع مثل هذه التشكيلات الجمالية المبتكرة يمر بلحظة الدهشة المتجانسة مع الأبنية الجمالية التي يقترحها النص، ولحظة التلقي الإبداعي الذي يكون عنصراً مشاركاً في بناء الكون التخيلي عن طريق ملء فراغات النص.
في قصيدة “أنا بقاياك” ص 46 يقول:
“ما الذي يجمعني معك/أنا بقاياكَ/أنا أخرُ طرقاتكِ/أنا معناكَ الذي لم يكتملُ بعدُ/فأرى صبياً يخرجُ من بين أصابعي/ثم يتوارى في دخانِ الذاكرةِ/ويتركني/أتكئُ وحيداً/على رمادِ السنواتِ”.
صياغاته الشعرية رقيقة وعذبة وصوره عميقة ومعظم نصوصه في هذه المجموعة يتخطى فيها حدود المصير البشري، عاكساً رؤيته على ذاتيته ليحقق التجسيد الحميم والإيصال الرمزي بحقيقة ما يبوح به، في نصوصه يلجأ إلى التحليل ورسم الأبعاد الدقيقة وعرض الجزئيات الصغيرة، التي كثيراً ما تتكامل وتنمو لإعطاء الانطباع النهائي لموضوعة النص، فاللوحة الشعرية هي بحد ذاتها ذكريات مكبوتة تلملم بعضها صارخة بإيحاءاتها المنسية، إنها ذات تتكلم، لأنها توحي بلغة مكثفة للصمت الذي يفجر المعاني المخفية بما يثير المتلقي ويحرّك لغة انفعالاته وطاقاته التعبيرية.
في قصيدة “خطواتي وحدها التي تمشي” ص 50 يقول:
هكذا/تعّطلت كلماتي/وأصبحتْ عاجزةً عن التلويحِ/مذ رأيتُ الساحاتَ/ورأيتُ/الحدائقَ/والنوافذَ/خاليةً من الحبِّ/ورأيتُ الشوارعَ مسرعةً/تنزفُ ذكرياتها الحروبُ”.
إن لغة الشعر هي هيكل التجربة الشعرية التي يتألف بوساطتها دوافع التجربة لدى الشاعر طلال في ضوء حالة عاشها، ثم شكلها وفق ألفاظ ودلالات تعبر أو توحي عن تلك التجربة التي تسكنه.
في قصيدة “قلاع مكتنزة بالشموس” ص 59 يقول:
وأنتِ/تكسرين أقداحَ الغيبِ/ببهائكِ المترامي/على صباح الأريكةِ/العالمُ/يكتمُ أنفاسهُ/بين ذراعيكِ/ويتحاورُ/في حدائق أنفاسكِ/فيما السماء/تجلسُ عند ركبتيكِ/وتُعيركَ/سريرها الملائكي”.
في الشعر نبحث عن الإبداعات وبخاصة ما يتعلق بالجانب الإنساني كي نفهم طبائعنا ونتعرف على سر وجودنا في هذه الحياة، كما أن العنوان يمثل العتبة الأولى التي يلج منها القارئ إلى عالم النص، والشاعر عليه أن يبذل عناية قصوى لمسألة اختيار العناوين باعتبارها نصوصاً موازية لها أهمية كبرى.
في قصيدة “جرحنا الذي يتلألأ” ص 70 يقول:
في صباح المرايا/رأيتُ الأرائكَ فارغةً/والأصدقاء/يحزمون مقابرهم/بالمناديل/وأحلامهم في خطواتِ الوداع/ورأيتُ الشجرَ/الشوارعَ/تنسّلُ من/بين أسمائها/في حياء الخطى/وهي تُعيرُ ملامحها للغياب”.
من سياق نصوصه وتداخل مفرداته في هذه المجموعة تحسست بأن عناوين قصائده متطابقة مع رؤاه، كأنها حلقة متكاملة من مفردات مخصصة للغرض منذ الاستهلال وحتى الخاتمة، فالمخيال عنده يلعب دوره في تقريب المعنى بتشبيه وتماه وغَيرَه، فالصورة الجمالية في نصوصه نتحسسها في مناداة ومناجاة، حتى الحواس تتماهى في التقريب عِبْرَّ تراسل لمقاطع تعاشقت الحواس في تعويض جمعي، وهنا الأدوات المكثفة بالنصوص ما هي إلا تنشيط حدث اللهفة ومواءمة الحالة في أجواء مطرزة تفصح عن سحر وجمالية المفردة التي تزخر بإيحاء يشع بإضاءة.
في قصيدة “لاتعد خطواتك بالأرقام” ص 78 يقول:
أحزمُ صباحي الأعزل/في وجهي/محتفٍ بشموسي التي/لم أرها/شموسي التي/ستصاحبني إلى حيثُ أمضي/وأنا أعدُ الرياحَ على خطواتي/هكذا قالَ أبي يوماً لا تعدْ خطواتكَ بالأرقام/لا أريدُ لأحلامي/أن تمشي في أقدامِ العشبِ/وهي تنصبُ فخاخها للبرقِ”.
وراء كل عمل أدبي تكمن رغبة جامحة في البوح، قول شيء ما، فهو لا ينهض أو يتأتى من فراغ، وقد يكون هذا البوح قريبا ويرتبط بالشاعر، وقد يكون عاماً متعلقاً بالناس، وكما هو متعارف عليه أن القصيدة فعلاً لغوياً تمارس حضورها النفسي والفكري عَبْرَ مساحة لغوية معلومة، كونها تختزل طاقة محرّضة على الفعل الذي يرفع إلى انجاز الأثر الشعري، ربما قد يكون فعلاً ضامراً، محدوداً، ممتلئاً بالدلالات والمغزى.
في قصيدة “إيثار” ص 87 يقول:
“من أجل/أن نوقظَ النائمين في العربةِ/التي تقلهم إلى الموت/امتلأت/جيوبنا بالتهم/ورؤوسنا بالمقابر”.
الرؤيا في الشعر هي نفاذ الشاعر ببصيرته الحادة إلى ما تخبئه المرئيات وراءها من معانٍ وأشكال، فيقتنصها ويكشف نقاب الحس عنها، وبذلك يفتح عيوننا نحن القراء على ما في الأشياء المرئية من روعة، وتستمد ملامحها من التجربة الإنسانية التي يعيشها الشاعر في عالمه، إذ لا تنضج الرؤيا الشعرية لدى الشاعر إلا بعد عناءٍ ومكابدة، ولا يتم نضجها إلا على عذاب مزدوج، عذاب المعاناة وعذاب المعرفة، ولا تستوي إلا على نارين، الخبرّة والثقافة، كونها تستند إلى قضية جوهرية، أو انهماك صميمي يملأ كيان الشاعر ووجدانه وقصائده.
في قصيدة “غناء” ص 101 يقول:
يا لهذي الجراح/وهي تخرجُ من فمِ الناي/وتحّلقْ عالياً/فتملأُ الوديان بالغناء/أنا سليلُ الحروب/لكنّي سأظلُّ أحلمُ بزهرةٍ/وهي تفترعُ خوذتي”.
الشعر رسالة وبوصلة، وقدر الشاعر الملهم الذي يحمل نظريته معه, لذا تبقى ذات الشاعر هي المُحاورة لكل الظروف وفي مختلف الأزمان التي تعيشها بكل فصولها المعنوية المتخيلة في إدراك المعنى والإشارة له وفق دلالاته المدركة لمدلولها الذاتي والإنساني.
“حرريّني من قبضتك” مجموعة شعرية للشاعر طلال الغوار صدرت عن دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع – سورية– دمشق- وهي من القطع المتوسط واحتوت على 28 نصا شعريا.
أحمد البياتي/العراق