الفئــة الثالثــة … أولئــك الذيــن هــم بَيــْنً بَيْــن
عبد الرحمن غنيم
في هذا الزمن الذي تفاقم فيه دور الجماعات والعصابات التي اصطلح العالم على وصف بعضها, بـ”الإرهابية”, وأضاف المسلمون بشكل خاص الى هذه الصفة صفة “التكفيرية”, فإن سؤالاً منطقياً لابدّ أن يطرح نفسه، هو: هل وصفُ هذه الجماعات بالإرهابية التكفيرية هو التوصيف الصحيح أم أن التوصيف الصحيح غير ذلك؟.
إن ما يدفعنا الى طرح هذا السؤال, عدا عن سعينا الى التوصيف الدقيق للظاهرة التي يمثلها هؤلاء, خاصة بعد أن باتت ظاهرة متفاقمة مستشرية, إنما يتمثل بالحقيقة القائلة بأن هذه الجماعات أو العصابات ترى في هذا التوصيف لها مدحاً لا قدحاً, ومعيناً لها على النمو السرطاني بدل أن يكون معرقلاً لهذا النمو، والسؤال هنا، كيف ذلك؟.
إنّ وصفهم بالتكفيريين يعني أنهم هم من يكفرون الآخرين, بينما لا يذهب الآخرون الى تكفيرهم بالمقابل خوفاً من الوقوع في زلل التكفير الذي نهى عنه الإسلام، وهكذا يزعمون أنهم أصحاب الإيمان, والأوصياء على الإسلام, والممسكون بناصية العقيدة, والعاملون بأحكامها, وأن الآخرين مفرّطون, ولكونهم مفرطين كافرون.
وأما وصفهم بالإرهابيين, فإنهم يعتبرونه إقراراً بنجاحهم, مدّعين أن القرآن الكريم حثهم على إرهاب الآخرين, وذلك في قوله عز وجل (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباطِ الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم) فيقفون عند كلمة(ترهبون) مدّعين أنهم وصلوا في ممارسة ما يدّعون أنه “الجهاد” حدّاً يرهبون به الآخرين، وهؤلاء الآخرون هم من كفّروهم واعتبروا أنهم عدوّ الله وعدوّهم، وطالما أنهم كفّروهم فقد صار العدوان عليهم في نظرهم مبرراً, وصار انتهاك حياتهم وحرماتهم وسلب ممتلكاتهم مباحاً, وصار إرهابهم مطلوباً, ويبرر استخدام كل سبل النكاية بهم.
والواقع أننا لو نظرنا الى تأثير كلمة “إرهابيين” التي اختارها الغرب أساساً لتصنيفهم أو وصفهم, لوجدنا أنها تؤازر أساليبهم في اللجوء الى العنف المفرط بغرض إرهاب الآخرين مؤازرة نفسية, من خلال تكرار هذه الصفة عبر وسائل الإعلام العالمية.
ولو تفكَّرنا قليلاً لوجدنا كيف أن صفة الإرهابيين لم تطلق على مقاتلي حروب العصابات في الماضي, بغض النظر عن دوافع هذه الحروب، وكان الصهاينة مثلاً يطلقون على المقاومين الفلسطينيين صفة “المخربين”, وأما “الأفغان العرب” ومن في حكمهم ممن جندوا للحرب في أفغانستان, فكان الغرب يطلق عليهم صفة المجاهدين أو الأفغان العرب, ولم يغيّر التسمية إلا بعد أن تشكل تنظيم القاعدة مدّعياً أن غايته محاربة اليهود والأمريكيين.
وأما تعريف “الإرهاب” فقد حالت الولايات المتحدة دون تمكين المنظمات الدولية من الاتفاق عليه حتى الآن, وكانت سورية التي كانت من أوائل الدول التي تعرّضت للإرهاب, بل أول دولة تعرّضت للإرهاب, وقد طلبت الاتفاق على تعريف له للتمييز بينه وبين المقاومة ومن دون أن يجد طلبها استجابة من قبل ما يسمّى بالمجتمع الدولي.
إزاء هذه المعطيات نجد أن هناك مشكلة وراء التسمية المتداولة, أو في التوصيف, وهذه المشكلة تنصبّ أيضاً على التعريف، لكن إذا كان اهتمامنا بشكل عام ينصب على البعد السياسي, إلا أن المشكلة أساساً لها بعدها الديني الذي لا يجوز تجاهله, أو الامتناع عن دراسته في العمق، فهذه العصابات والجماعات إنما تمارس إفسادها باسم الدين, ولا بدّ من دراسة حقيقتها على أساس المنظور الديني. وبالتالي, لا بد من تحديد طبيعة الظاهرة التي يمثلها هؤلاء على أساس القرآن الكريم, طالما أن هذه الجماعات تنطلق من الزعم القائل بأنها “سلفية جهادية” أو “أصولية جهادية”.
لنلاحظ هنا أن من يخالفون منطق هذه الجماعات من علماء الدين في بلادنا يذهبون الى التمييز بين منطقها الذي يصفونه بالغلو والتطرف, وبين ما يقولون بالمقابل إنه الإسلام الوسطي المعتدل.
وقد يبدو مثل هذا النوع من التمييز منطقياً ومقبولاً لدى الكثيرين, لكنه عملياً يشكل مصيدة فقهية خطيرة, إذ يميز بين “إسلام معتدل” و”إسلام متطرف”, فهل هو إسلام واحد أم إسلامان؟. ثم إن أصحاب “الإسلام المتطرف” سيدعون أنهم أكثر تمسكاً بتعاليم الإسلام بينما المعتدلون في اعتدالهم هم مفرطون، ولنضف الى ذلك أنهم يذهبون الى الادعاء بوجود أكثر من سبعين فرقة إسلامية وأن هناك فرقة واحدة ناجية من بينها بينما باقي الفرق ضالة ولا نجاة لها!. ويصدّق البسطاء ببساطة مثل هذه الادعاءات.
والسؤال هنا: كيف نتغلب على هذه المشكلة، وكيف نعالجها؟.
هناك في العلوم مبدأ أساسي لا يستطيع أي باحث في أيّ فرع من فروع العلم أن يتجاوزه إذا أراد لبحثه أن يكون متكاملاً, وهو أن يبدأ بـ”التعريف” ثم ينطلق من التعريف العام ليدخل في التفاصيل والتفريعات.
من الأمور التي تستدعي الوقوف عندها بتمعن أن القرآن الكريم إنما بدأ آياته بعد سورة الفاتحة مباشرة بـ”التعريف” أو “التعريفات”, فقدم لنا تعريفاً جامعاً مانعاً – كما يقال عند العلماء- لثلاث فئات, وذلك قبل أن يدخل في التفاصيل المتعلقة بهذه الفئات.
وهكذا يكون القرآن الكريم قد حدّد لنا الأساس العلمي الذي يمكننا من فهم التفاصيل وتحديد الرؤى، ولقد جاءت هذه التعريفات في الآيات من 1 – 20 من سورة البقرة, وكأن القرآن الكريم يقول لنا: انتبهوا حتى لا تضلوا وتتشعب بكم السبل، وهذه الفئات الثلاث التي جرى التعريف بها هي المحور الذي يجب أن يؤطر تفكيركم وأن تحتكموا إليه في فهم ومعالجة ما تواجهون من مشكلات. ولنلاحظ في هذا المجال أن التصنيف الثلاثي على هذا النحو يختلف مع التصنيف الثنوي بين خير وشر, إذ ينبهنا الى وجود حالة تقع بين الخير والشر أو بين الهدى والكفر.
إن التعريف بهذه الفئات يرد في القرآن الكريم على النحو التالي:
أولاً: فئة المتقين المؤمنين:
وعنها يقول عز وجل (ألم< ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمتقين< الذين يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصلاةَ وممّا رزقناهم ينفقون< والذين يؤمنون بما أنزل إليكَ وما أنزلَ من قبلك وبالآخرة هم يوقنون< أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هم المفلحون)«البقرة، الآيات1-5» فهذا هو التعريف الجامع المانع لفئة المتقين المؤمنين الذين لا تشوب إيمانهم شائبة.
ثانياً: فئة الكافرين:
وعن هذه الفئة يقول سبحانه وتعالى (إنّ الذينَ كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون< ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذابٌ عظيم)«البقرة، الآيات 6-7» وفئة الكافرين هذه على هذا النحو هي فئة لا صلة لها بالإسلام ولا بغير الإسلام من الديانات التوحيدية, ومن ينطبق عليهم التعريف هم أشخاص ميؤوس من إيمانهم تماماً.
ثالثاً: فئة المخادعين المفسدين الضالين:
وهذه الفئة هي الأكثر تعقيداً, لأنها – كما سيتضح معنا – متأرجحة. وعن هذه الفئة يقول سبحانه وتعالى (ومن الناس مَنْ يقولُ آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين< يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون< في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون< وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون< ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون< وإذا قيلَ لهم آمنوا كما آمنَ الناسُ قالوا أنؤمنُ كما آمنَ السفهاءُ ألا إنهم هم السفهاءُ ولكن لا يعلمون< وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحنُ مستهزئون< اللهُ يستهزئُ بهم ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون< أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين< مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهبَ اللهُ بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون< صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون< أو كصيّب من السماءِ فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلونَ أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموتِ والله محيطٌ بالكافرين< يكادُ البرقُ يخطفُ أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاءَ الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) «البقرة، الآيات-20».
لعل أول سؤال يخطر بالبال, ونحن نتابع الوصف أو التعريف الذي تتضمنه هذه الآيات: هل نحن أمام فئة واحدة محدّدة واضحة الأبعاد والملامح أم أمام عدة فئات تندرج ضمن هذه الفئة؟.
إذا سلمنا بأن التعريف بحكم كونه تعريفاً هو جامع مانع, وجب أن نسلم بضرورة اجتماع هذه الصفات، لكن التسليم باجتماع هذه الصفات لا يعني بالضرورة عدم وجود احتمال بتعدد أشكال التعبير عنها، وهو تعبير يمكن أن يختلف من زمان الى زمان, ومن مكان الى مكان, باختلاف الظروف الموضوعية المحيطة بأشكال هذا التعبير، وطالما أن هذه الفئة الثالثة هي “بَيْنَ بَيْنْ”, فلا هي تنتمي الى فئة المتقين المؤمنين ولا هي تنتمي الى فئة الكافرين, فإنها يمكن أن تحتل مكانها بين الفئتين, ولكنها أيضاً يمكن أن تتعدد على أساس معيار محدد يتمثل بتراوح فكرها وسلوكها بين التفريط والغلو, أو التفريط في جانب والغلو في جانب آخر, كما أنها يمكن أن تتعدد في ضوء الظروف الموضوعية التي تحيط بها من مرحلة الى أخرى.
لقد ذهب بعض المفسّرين الى أن هذه الفئة الثالثة تتمثل بـ”المنافقين”, كما ذهبوا الى الربط بينها وبين المنافقين في المدينة المنورة، ومن المؤكد أن النفاق هو إحدى صفات هذه الفئة, وهذا ما نستنتجه من قوله عز وجل (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) لكن هذا ليس كل شيء، فهم أولاً مخادعون (يخادعون الله والذين آمنوا), وهم ثانياً (في قلوبهم مرض) يجعلهم يكذبون, وهم ثالثاً مفسدون في الأرض, ومع ذلك يزعمون أنهم مصلحون, وهم رابعاً مغالون بدلالة قوله تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمنُ كما آمن السفهاءُ) ثم تأتي صفة النفاق في المرتبة الخامسة, ثم هم سادساً ضالون (اشتروا الضلالة بالهُدى) وهم بضلالتهم هذه يتاجرون (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين).
إن اجتماع هذه الصفات معاً يفترض وجود رؤية فكرية تترتب عليها أنماطٌ سلوكية, ولا يمكن لهذا الاجتماع أن يأتي بالصدفة. ولا نعتقد أن تجربة المسلمين في المدينة المنورة شهدت تجربة متكاملة جمعت بين الرؤية الفكرية والسلوك المترتب عليها, لكن هذه التجربة عرفت أنماطاً جنينية هي الى السلوك الفردي أقرب منها الى الرؤية الفكرية.
والدليل على صحة هذا الاستنتاج نجده في أكثر من آية يجري فيها التمييز بين الأنماط السلوكية المتعددة التي عرفتها الخبرة الإسلامية في تلك الفترة، يقول سبحانه وتعالى (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ غرّ هؤلاء دينهم) «الأنفال 49» كما يقول تعالى (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) «الأحزاب 12».
هنا نكون أمام تمييز بين فئتين, أو نهجين سلوكيين: “المنافقون” و”الذين في قلوبهم مرض” كما يقول تعالى (لئن لم ينتهِ المنافقونَ والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفونَ في المدينة لنغرينّكَ بهم ثمّ لا يجاوزونك فيها إلا قليلا< ملعونين أين ما ثقفوا أُخذُوا وقتلوا تقتيلا< سُنّةُ الله في الذين خلوا من قبلُ ولن تجد لسُنّة الله تبديلاً) «الأحزاب 60–62». وهنا نلاحظ التمييز بين ثلاثة أنماط سلوكية حيث أضيف “المرجفون” الى “المنافقين” و”الذين في قلوبهم مرض” وسنرى بعد قليل أن هذا لا يعني بالضرورة أننا في مواجهة ثلاثة أنماط لا تفاوت في السلوك داخل كل نمط منها, حتى أن توبة البعض يمكن أن تقبل، بينما المطلوب قتل الآخرين!.
إن الأمر الأهم في هذا السياق, والذي يجب أن يوضع في الاعتبار, هو أن هذه الأنماط السلوكية لم تكن تعبّر في ذلك الحين عن رؤية فكرية, وإنما هي أقرب الى ردود الأفعال أو الارتجال, ولذلك وجدنا تأثير بعضها على المسلمين خطيراً, ووجدنا التوجيه الإلهي حول أسلوب التعامل معها من خلال التوجيه في القرآن.
ونستطيع أن نلمس هذه المعطيات في قوله عز وجل (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحبُّ من كان خوّاناً أثيماً< يستخفون من الناس ولا يستخفونَ من اللهِ وهو معهم إذ يبيّتونَ ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً< ها أنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً) «النساء 107 – 109».
وقد أدّى سلوكُ هؤلاء والذي وُصفَ هنا بالخيانة, والخيانة هي أسوأ ما يمكن أن تواجهه الدعوة وخاصة في بدايتها, الى انقسام المسلمين فئتين حول أسلوب التعامل معهم, مما استوجب توجيهاً بما ينبغي أن يكون عليه التصرّف إزاءهم، يقول سبحانه وتعالى (فما لكم في المنافقينَ فئتين واللهُ أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تُهدوا من أضلّ اللهُ ومن يضلل اللهُ فلن تجد له سبيلاً< ودّوا لو تكفرونَ كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياءَ حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولّوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليّاً ولا نصيراً) «النساء 88 و 89».
نحن إذاً أمام ظاهرة نكوصٍ تعادل الردّة والانتقال من فئة المؤمنين أو المسلمين الى فئة الكافرين، وعن أمثال هؤلاء يقول عز وجلّ (إن الذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً< بشر المنافقينَ بأنّ لهم عذاباً أليماً< الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين أيبتغونَ عندهم العزّة فإن العزّة لله جميعاً) «النساء 137- 139».
ثمة مثال آخر عن سلوك بعض هؤلاء يتمثل في قوله تعالى (وقد نزّلَ عليكم في الكتابِ أن إذا سمعتم آياتِ الله يُكفرُ بها ويُستهزأُ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إنَ اللهَ جامعُ المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً) «النساء 140».
كما يرد عن سلوك المنافقين الانتهازي قوله تعالى (الذين يتربّصونَ بكم فإن كان لكم فتحً من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيبٌ قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) «النساء141».
ونفهم أيضاً أن المنافقين مراؤون ومخادعون، يقول عز وجل (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناسَ ولا يذكرون الله إلا قليلاً< مذبذبينَ بَيْنَ ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ومن يضلل اللهُ فلن تجد له سبيلاً) «النساء 142 و 143».
وفي ضوء هذه المعطيات حول سلوك المنافقين وعلاقتهم بالكافرين يأتي التوجيه الإلهي (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً<إن المنافقينَ في الدرك الأسفل من النار ولن تجدَ لهم نصيراً< إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً) «النساء 144- 146».
وهنا نفهم على نحو واضح أمرين: أولهما أن المنافقين إنما ينتمون الى الفئة الثالثة التي هي “بَيْنَ بَيْن”, ولكن منهم من يجنح الى الكفر ومنهم من يمكن أن يتوب ويجنح الى الإيمان, وبوسعنا أن نستنتج بالطبع أن منهم من يبقى متذبذباً بين هذا الطرف وذاك.
إن المنافقين الموصوفين في هذه الآيات هم بتعبيرنا المعاصر انتهازيون، وعن بعض هؤلاء يقول تعالى (يا أيها الرسول لا يحزنكَ الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب سماعون لقوم آخرين) «المائدة 41».
ومن النماذج السلوكية الإضافية ذلك النموذج الذي يمارسُ فيه أدعياء الإيمان الإفساد في الأرض. يقول تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهدُ اللهَ على ما في قلبهِ وهو ألدُّ الخصام< وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسدَ فيها ويهلك الحرث والنسلَ والله لا يحب الفساد) «البقرة 204 و 205».
ولقد كان من الطبيعي زمن البعثة الإسلامية, وفي مرحلة تثبيت أقدام المسلمين, أن يكون الجهاد هو المعيار العملي أو الأساسي للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وكان العنوان العام لتلك المرحلة متمثلاً في قوله عز وجل (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) «الأنفال 39».
وهنا ظهرت مشكلة المنافقين المتمثلة في تقاعسهم عن الجهاد, وكان ذلك امتحاناً لإيمانهم، يقول تعالى (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون< الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) «آل عمران 167 و 168».
ولقد تجلى خطر سلوك المنافقين بشكل خاص في غزوة الأحزاب، يقول تعالى (يا أيها النبي اتّقِ اللهَ ولا تُطِع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً< واتّبع ما يوحى إليك من ربّك إن الله كان بما تعملون خبيراً) «الأحزاب 1 و2».
وحول ظروف تلك المعركة ودور المنافقين واليهود وخطورته يقول عز وجل (هنالكَ ابتليَ المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً< وإذْ يقولُ المنافقونَ والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا اللهُ ورسولُهُ إلا غرورا< وإذْ قال طائفةٌ منهم يا أهل يثربَ لا مقامَ لكم فارجعوا ويستأذنُ فريقٌ منهم النبيّ يقولونَ إن بيوتنا عورةٌ وما هي بعورةٍ إن يريدونَ إلا فراراً< ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً< ولقد كانوا عاهدوا الله من قبلُ لا يولون الأدبار وكانَ عهد الله مسؤولاً< قل لن ينفعكم الفرارُ إن فررتم من الموتِ أو القتلِ وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً< قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمةً ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً< قد يعلم الله المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتونَ البأسَ إلا قليلاً< أشحّةٌ عليكم فإذا جاءَ الخوفُ رأيتهم ينظرون إليك تدورُ أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموتِ فإذا ذهبَ الخوفُ سلقوكم بألسنةٍ حدادٍ أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً< يحسبون الأحزابَ لم يذهبوا وإن يأتِ الأحزابُ يودّوا لو أنهم بادونَ في الأعرابِ يسألونَ عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً) «الأحزاب 11 – 20».
من الواضح أن مشكلة هؤلاء الأساسية – كما عبّرت عنها الآيات – هي الخوف الذي هو انعكاس لضعف الإيمان، ولكن قد يكون الانحراف السلوكي ناجماً عن الجهل والتخلف، وهذا ما نستخلصه من قوله تعالى عن الأعراب (الأعرابُ أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدودَ ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم)«التوبة 97» كما يقول تعالى (وممّن حولكم من الأعرابِ ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرّتين ثم يردّون إلى عذابٍ عظيم) «التوبة 101».
ومن أشكال النفاق أيضاً التظاهر بالطاعة، يقول تعالى (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّتَ طائفةٌ منهم غير الذي تقولُ والله يكتبُ ما يبيّتونَ فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً) «النساء81».
وعن هؤلاء الذين يضمرون غير ما يعلنون يقول تعالى (يحذر المنافقون أن تُنزّلَ عليهم سورةٌ تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون< ولئن سألتهم ليقولنّ إنما كنا نخوضُ ونلعبُ قل بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون< لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نَعْفُ عن طائفةٍ منكم نعذّبُ طائفةً بأنهم كانوا مجرمين< المنافقون والمنافقاتُ بعضهم من بعض يأمرونَ بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون< وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذابٌ مقيم) «التوبة 64 – 68».
ولا ريب أن الخيانة كانت أسوأ أنواع السلوك الذي يمكن أن يقدم عليه المنافقون, مما يقتضي معاملة الخائنين منهم بقسوة، يقول تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير< يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم اللهُ ورسولهُ من فضله فإن يتوبوا يكُ خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من وليٍّ ولا نصير< ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضلهِ لنصدّقنّ ولنكوننّ من الصالحين< فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون< فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم الى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوهُ وبما كانوا يكذبون) «التوبة 72 – 77».
ومن نماذج المنافقين من يربط بين الإيمان وبين المنفعة أو الضرر، يقول تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصرٌ من ربكَ ليقولنّ إنا كنا معكم أوليس اللهُ أعلم بما في صدور العالمين< وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) «العنكبوت 10 و 11».
إن الخلاصة التي نصل إليها من خلال دراستنا للآيات التي تتحدث عن المنافقين أنهم لم يكونوا فئة واحدة, فمنهم من انحرف عن جادة الصواب ولكن توبته ممكنة, وهذا يعني أنه لم يغادر فئة المؤمنين، ومنهم من ارتدّ بعد إيمانه وكفر مرة أو أكثر من مرة وصار يعدّ من الكافرين, ومنهم من صنّف في الفئة الثالثة وقد يكون للكفر أقرب منه الى الإيمان أو العكس، وفي هذه الحالة فهو من الضالين.
ويتضح من المعطيات السابقة أن ظاهرة “المنافقين” و”الذين في قلوبهم مرض” و”المرجفين” و”المرتدين” في زمن البعثة الإسلامية كانت عبارة عن أنماط من النماذج السلوكية المتنوعة التي يمكن للباحث أن يتعقب كل ملامحها من خلال ما ورد حولها في القرآن الكريم والسيرة النبوية, وأنه من المنطقي الافتراض بأن من اتصفوا بواحدة أو أكثر من المظاهر السلوكية المذكورة بعضهم ينتمي الى الفئة “بْيْنَ بَيْن” الواقعة بشكل منطقي بين فئتي المؤمنين والكافرين.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحاً ويحتاج الى البحث والتدقيق، هو: هل انطبقت على أولئك مجموع الصفات الواردة في تعريف الفئة الثالثة الموصوفة في مطلع سورة البقرة؟ أم أن سورة البقرة تعالج فئة سيعرفها المسلمون في زمن لاحق هي غير المنافقين؟.
«للبحث صلة»