البعــــــث.. وثوابـــــت المواقــــــف
د. صابر فلحوط
تؤكد القراءات المنصفة للأحداث، منذ أربعينيات القرن الماضي، أنه لم تعرف الساحة السياسية في الوطن العربي حزباً، واجه، وجابه من المؤامرات، والمعارك المفصلية، كما واجه حزب البعث العرب الاشتراكي.
فقد ولد الحزب في السابع من نيسان عام 1947 عبر أجواء غاية في الاضطراب، والعواصف الهائلة التي شهدها العالم بُعيد حربين كونيتين في أوروبا ومختلف الأطراف الدولية، حيث حصدت أرواح العشرات من الملايين، ودمرت الآلاف من المدن، والإنجازات الحضارية والتراثية!!.
وقبل أن يبلغ التنظيم أشده، نشبت الحرب العربية الصهيونية على أرض فلسطين 15/5/1948، حيث كان العدوان العنصري الاستعماري الأفظع والأبشع في تاريخ العالم ضد شعبنا العربي الفلسطيني، وقد كان قدراً قومياً، وعروبياً، ووجودياً أن ينخرط البعث في المعركة في مقدمة جماهير الأمة العربية حتى أصبح يُعرف بحزب فلسطين العربية، حيث قاد العمل الفدائي على الأرض، كما قاد الكفاح الفكري والثقافي والأيديولوجي داخل البوابات الوطنية للمجتمع.
ولعل أشرس أعداء البعث بعد الصهيونية العنصرية، كان الفكر الرجعي السلفي المتنكر للسلف الأصيل والدين الحنيف، والمتمترس في جحور ومقولات النقل التي تعتقل العقل، وتتماهى في خلفيات نظرية خارج حدود العصر، وتطوره المعرفي، وقد فجرت هذه الأجواء مبكراً الصراع الأكبر بين البعث كحامل موضوعي ومتنور يربط بين الماضي العظيم للأمة، والمستقبل المنشود والمتجدد لها، وبين الظلامية الإخوانية التي تم كسر حلقتها المجتمعية في سورية بعامة، وفي دمشق بخاصة عبر الانتخابات النيابية التي حصلت معركتها الفاصلة بين ممثل البعث والتقدميين رياض المالكي ومصطفى السباعي ممثل الإخوان المسلمين!!.
أما شبكات التآمر على الوطن، والبعث رأس حربته، الفكرية والثقافية، فقد تكفلت قيادة -البعث- ممثلة بحرسه، القديم والمؤسس، وشبابه الذين امتلكوا ناصية العمل في الشارع السياسي، سواء في البرلمان، حيث الكتلة البعثية الأصلب والأقوى بعد اندماج جناحي (البعث العربي مع الاشتراكي) في الشارع السياسي والشعبي، حيث جماهير العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين والعسكريين العقائديين الذين كانوا النواة المباركة لجيش سورية العربي منذ توقد شعلته الأولى حتى ساعة انتصاره على الإرهاب التكفيري الوهابي في هذه الأيام. وقد كسر تحالف البعث مع شرفاء الوطن حدة الهجمة الامبريالية التي ترافقت مع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، حيث أودى بحلف بغداد المشؤوم، وصمد في وجه الحشود والتهديدات التركية في الشمال السوري، ووقف إلى جانب مصر العربية في حربها ضد العدوان الثلاثي- الصهيوني البريطاني الفرنسي- في حرب السويس 1956، وتوجه التحالف الوطني القومي صوب ثورة 23 يوليو في مصر العربية لصنع الحدث القومي الأسطع والأروع في تاريخ البعث وهو قيام الجمهورية العربية المتحدة شباط 1958 بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.
وقد سجل للبعث، بالإكبار والإعجاب، تضحيته بتنظيمه في القطر السوري من أجل الوحدة مع الشقيقة مصر، كخطوة مفتاحية مبدعة لتوحيد الأمة من المحيط إلى الخليج، واختصار الطريق لاستعادة الرسالة الخالدة، والمجد العروبي المنشود.
لم يحنِ البعث هامته أمام كارثة الانفصال الأسود الذي طعن آمال الأمة في الصميم، حيث انبرى من الصفوف العسكرية والمدنية صفوة من الرفاق الأشاوس الذين تعالوا على الجراح (وهي كثيرة وكبيرة ومتفجرة) وفي جميع الاتجاهات، فأعادوا التنظيم للحزب، وفجروا ثورة الثامن من آذار 1963 التي كنست الانفصال صنيعة الصهوينية والرجعية العربية النفطية.
وتوجهت نحو مصر العربية لتعيد بناء الوحدة على قواعد من الرسوخ والقوة، تجتث جذور الأخطاء والارتكابات التي كانت الذرائع والسلاح لأعداء الوحدة في القضاء عليها، وقد كان قائد مسيرة ثورة آذار، وكلمة السر في بنائها العسكري والحزبي الرئيس الخالد الرفيق حافظ الأسد.. وقد واجهت ثورة البعث في آذار جملة من الحواجز الصادمة التي حالت دون بلوغها أهدافها القومية الكبرى، ويأتي في مقدمة هذه العقبات المعيقة، الصراع الذي أصاب التنظيم في قيادته، إضافة إلى انتكاسة الثقة بين البعث والزعيم الراحل عبد الناصر، وبخاصة بعد أحداث تموز 1963 ودخول قيادة ثورة الثامن من شباط في العراق على خط المفاوضات لإعادة الوحدة، وقد تدافعت الأمور، وتعقدت إلى درجة لم يعد فيها الحوار مجدياً داخل البيت البعثي في سورية بسبب تصاعد المناكفة والتشطي في قيادة البعث حيث تجاوز التنابذ الجدران، والأبواب الحوارية المغلقة إلى الشارع المفتوح، والمتصيد للأخطاء والاختلافات ليراكمها، ويحمل أثقاله فوقها!!.
في هذه الأجواء الملبدة والمتندرة بالأسوأ كان لا بد من أن ينبري الحريصون على البعث وثورته للإقدام على اتخاذ قرار الخلاص الأكبر والأصعب، فكان التصحيح المجيد الذي قاده الرئيس المؤسس حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني 1970 مستهدفاً أمرين اثنين أساسيين ومفصليين:
الأول تجديد الحزب عبر ولادة معافاة تستبعد ادعاء العصمة، أو الأبوة، أو التفرد بالقرار الأساسي للحزب، والثاني بناء سورية الجديدة أنموذجاً للعروبة والهوية الوطنية الجامعة، عسكرياً، وحضارياً، وثقافياً، واجتماعياً ومعاصرة.. ولاشك أن الرواسخ التي أرساها القائد الخالد عبر التصحيح وفي حقل إعداد القوة لمواجهة المؤامرات التي تستهدف الوطن، هي التي صنعت في سورية جبهة العروبة الأحصن في مواجهة أعدائها، حيث أبدع جيشنا العقائدي التضحيات الأسطورية في حربه الوطنية العظمى ضد الإرهاب التكفيري الوهابي الرجعي المحتشد من أكثر من مئة دولة وعلى رأسها محور الشر الأمريكي الصهيوني النفطي.
أما بناء سورية العربية المعاصرة بقيادة الرئيس بشار الأسد الأمين القطري للبعث، وارتفاعها إلى المستوى الذي جعل قادة ومفكرين كبار على المستوى العلمي يعلنون أن سورية أصبحت تعد (أقوى دولة صغيرة في العالم، وأكبر حاملة طائرات برية)، فهذا بحد ذاته مجد لا يطاوله مجد يسجل للبعث فكرة وعقيدة ومسيرة نضال على مر العقود الطويلة من عمره المديد.
إن نظرة خاطفة إلى تاريخ عشرات الأحزاب السياسية التي ولدت قبل البعث وبعده، وتلاشت بسبب عدم عمق جذورها في تربة العروبة والمجتمع، تؤكد عظمة البعث ورسوخ أقدامه في الساحة القومية، والضمير الجمعي للجماهير، لأنه كان وما يزال حزب القضية المركزية للأمة العربية فلسطين والمحتل الحقيقي لوجدانها وفكرها الثوري، وإيمانها المطلق بقدرة الأمة العربية على تجديد ذاتها، واستعادة رسالتها الخالدة.
تحية لمن تقدّموا الصفوف، وكانوا صخور الأساس في البناء الشامخ للبعث وأسعفهم القدر والعمر لمواكبة مسيرته العملاقة بالدم أو بالكلم.. وكل التحايا في الختام، كما على الدوام لشعبنا الصامد، وجيشنا الفادي، وقيادتنا المنتصرة والمبدعة في معارك السياسة والسلاح.