عن التراث الشعبي
محمد راتب الحلاق
الموروث يعني كل ما أنجزه الأسلاف أو فكروا به أو اعتقدوا به.. ويدخل في شموله الفنون والآداب والتقاليد وأنماط السلوك وبعض الصناعات.. أما التراث فما بقي فاعلاً بكيفية ما من الفعل من هذا الموروث. وقد صنف الباحثون التراث إلى: تراث رسمي وتراث شعبي. وفي هذه المقالة سأحصر الحديث عن التراث الشعبي, أو ما يطلق عليه الفولكلور (وهو مصطلح استعارته اللغات جميعاً من اللغة الألمانية, في الدراسات الأكاديمية على الأقل).
بدأ الأوربيون البحث في تراثهم الشعبي منذ منتصف القرن التاسع عشر, إلى أن تحولت أبحاثهم إلى علم قائم بذاته, له منهجه ونظرياته, الأمر الذي أدى إلى اعتراف المؤسسات الأكاديمية به, وإلى تبني الهيئات العلمية الدولية له إلى جانب فروع العلوم الإنسانية الأخرى.
أما في الوطن العربي, ولأسباب أيديولوجية، قومية ودينية, فقد تعسرت ولادة هذا العلم, ومازال يعاني من الصد والشك والريبة. وأزعم بأن تصدي بعض الأفراد المتهمين عادة بضعف ولائهم العروبي للبحث في الموضوع, قد حال دون تقدم هذه البحوث، وجعلها موضع شبهة, خصوصاً أن أكثر هؤلاء يهرف بما لا يعرف, ويردد مقولات وادعاءات ومصطلحات استشراقية تضمر عداء, ظاهراً وباطناً, لكل ما هو عربي, هدفها تقويض التراث العربي لصالح تنوعات ثقافية محلية. وهذا ما يفسر اهتمام الجامعات الغربية, ولاسيما الفرنسية منها, باللهجات المحلية في أقاليم المغرب العربي وبلاد الشام, حيث دعمت الدراسات التي ترتاد هذا المجال ومولتها، على أساس أن هذه الدراسات ستؤدي, عاجلاً أم آجلاً, إلى إحداث شروخ حاسمة في بنية الثقافة العربية, وإلى نشوء ثقافات محلية تتعمق شيئاً فشيئاً إلى أن تصبح كل منطقة, معولاً ثقافياً وسياسياً قائماً بذاته.
ومع ذلك تبقى الدعوة إلى دراسة التراث الشعبي دعوة مشروعة ومبررة معرفياً, شرط أن تبقى في أفق الدراسة العلمية والموضوعية المبرأة من خدمة الأيديولوجيات والبرامج السياسية لبعض الأطراف التي لا تريد للعرب خيراً, وأن تبقى بيد الدارسين المؤهلين علمياً ومعرفياً, والمتحررين من التبعية للسياسيين والأيديولوجيين الذين يريدون توظيف نتائج هذه الدراسات لخدمة دعوات انعزالية مشبوهة.
وأرى أن تكون دراسة التراث الشعبي ضمن اهتمامات كليات الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعات العربية, وأن يكلف الطلاب, كخطوة أولى, بإعداد حلقات بحث تتناول الفنون المادية وغير المادية، بما في ذلك الفنون الكلامية, الشفهية والمدونة، لأن الاهتمام بالتراث الشعبي, إلى جانب أنه يضمن تواصل الأجيال فإنه:
– يغني الدراسات النقدية ويمنحها القوة لاستكناه جوانية النصوص الأدبية، ولاسيما النصوص الشعرية.
– يغني تجربة الأدباء ويعطيها مدى متسعاً عبر الزمان والمكان. .
– يعطي لكتَّاب أدب الأطفال مادة ثرة يستطيعون تحميلها بالقيم الوطنية والقومية والإنسانية والأخلاقية.
– يخدم دراسات الأدب المقارن, ضمن الأدب ذاته عبر المراحل المختلفة, ومضاهاة هذا الأدب مع آداب الأمم الأخرى.
والاهتمام بالتراث الشعبي ليس جديداً على الأدب العربي , فقد اهتم به الأصفهاني والجاحظ وأبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني وسواهم كثيرون. والذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة ما أقرؤه وأسمعه وأراه من إقدام بعض الأشخاص, على التنظير في شؤون (الفولكلور), لمجرد أنه يعرف كيف يلفظ هذا المصطلح, لا أكثر ولا أقل, دون أن يمتلك أية ثقافة تؤهله للبحث في الموضوع, ومع ذلك نراه يشرق ويغرب دون أن يرف له جفن، وكأن البحث في الفولكلور من الأمور السائبة والمباحة لكل من هب ودب.
ratebalhallak4@gmail.com