البقيـــة فـــي لا!؟
د. نهلة عيسى
أنا والوجع المقطر صديقين منذ يومين, وشاشة التلفاز أمامي مقسومة إلى نافذتين, في الأولى بعض المخطوفين يغادرون موتهم إلى حياة جديدة, بينما يموت آلاف من أحبة من لم يغادروا, وفي الثانية, السفير بشار الجعفري على شاشة التلفاز يقاتل الضباع في جلسة لمجلس الأمن, الذي بات مجلساً حصرياً بالشؤون السورية, وكأن لا بلد في العالم على وجه الأرض غيرها, وكأن لا هم للدول الكبرى غير التأكد من أنه لم يبق منا أحد, يمكن أن يشهد يوماً على ما حدث, حينما اشتعلت بيوتنا بالحرائق, وقلوبنا بالنار, وأزقتنا بالكراسي المدولبة, والعكاكيز التي تتعالى على الجسد وجراحه, وحينما بات الحزن والغضب أرغفة لعيشنا, وحينما ظهرت وجوه غريبة, وتمددت كالطحالب على سنديان جبالنا وعرائش الفل, وزجاج النوافذ, وشقوق النور في عقولنا!.
أنا والوجع صديقان وفيان, يمشي بي واستجيب طائعة,لأستذكر معه, كيف ذات يوم, بات وكأنه من ألف عام, اجتمع علينا زناة الليل, وكيف بدأت حرب إبادتنا, وسط إجماع عربي ودولي لا سابق له في الإجماع, لنتحول إلى غرفة غاز نختنق الآن في جحيمها, حيث يحتفى بموتنا, بتلاوة الخطب فوق جثثنا عن الإصلاح والديمقراطية, بينما لسان إسرائيل الساخر المهدد المتوعد, ممدود في وجوهنا, ووجوه جميع العرب, بموافقة وصمت الحكام الدمى في بلاد العرب!؟.
أنا والوجع وشاشة التلفاز كالشيطان ثالثنا, و”ترامب” يتوعدنا, لأنه خاف أننا ربما انتصرنا, فتخرج من حلقي الضحكات أشبه بالغصات, وأكتشف رغم قلة علمي في علم النفس, أن تحولاتنا المزاجية صورة منسوخة بالكربون عن نشرات أخبار, هي منصات إعدام, ومن حكايات وشائعات مواقع التواصل الاجتماعية, والتحليلات الجيوطائفية لطابور خامس يبدو منا وفينا, يطبق علينا أساليب غسل الدماغ, حيث الجميع بعرفه مدان, وفي قفص الاتهام, مادام لا يعتقد اعتقاده, ولا يوافق على اقتراحه, ولا يحمل المشاعل لحرق ما تبقى من الوطن!.
أنا والوجع نتكئ على بعضنا البعض, ونتجلد في محاولة من الإمساك بتلابيب الصبر وطول البال وعدم تقيؤ الذات, ونحن نستمع للمعزوفات الأممية المجترة عن “الكيماوي” المزعوم, لأننا نؤمن أن الحروب لاتخاض بالصوت العالي, ولا بقطع الشجر, ولا بالتباكي في مقاهي النميمة على شباب غض ذاد بالروح عن حدود الوطن, بل تخاض خبراً في مواجهة خبر, وحقيقة في مواجهة أكذوبة, وإيمان في وجه باطل, وبندقية لبندقية, وأظن أن مشكلتنا تكمن في أن معظمنا لسانه هو البندقية؟!
نعم مشكلتنا, أننا أوكلنا البعض منا مهمة الموت لأجلنا, وهربنا من المسؤولية, وهَربنا أبناءنا من الجندية, وسمحنا للقتلة والسفلة باغتيال عناقيد العنب في كرومنا, وحصاد سنابل الحنطة من قلوبنا, ثم استرخينا على مقاعدنا, لنمارس مهنة التنظير والتحليل, وصوغ الخطب والخطط القتالية, ومن ثم محاسبة جنودنا على خروجهم عن نصوص استراتيجياتنا العسكرية الأصمعية!
نعم مشكلتنا, أننا لم نقرأ أطلس الجغرافيا أبداً, لندرك أننا نخوض معركة وجود, وليس معركة حدود, في وجه جيوش مجيشة, لا يهمها الحق, ولا تسعى وراء الحقيقة, ولا تعنيهم الشعوب ولا دماءها, بل تعنيهم الطاعة, والمشكلة أننا وطن السؤال, وسؤالنا في وجه “الكبار” تحول إلى مشنقة في عنق وطن, يخنقه الآن عصيانه, وتطفو بيوته التي لطالما فخرت بصور شهداء حاربوا آل صهيون, فوق بحر من الشجن!!.
عصياننا جرمنا, وقولنا لا في وجه الشيطان, جعل أيامنا صقيع, وقلوبنا جليد, تتساقط كالدمى الخزفية فوق قبور أحبتنا, وأنفاسنا تتكسر على أرصفة الشوارع, لنتنهد ارتياحاً حين نعبر ضفة شارع إلى آخر, ظناً منا أنها (خاتمة الأحزان) أو خاتمة حياة, فما عاد هناك من فرق, عندما يكون الاحتراق وطن, وأوصال الشوارع والأزقة والحارات, وأوصالنا, تتقطع على أيدي الغريب والقريب, وصوت السلاح ورصاصه يطارد بعضه البعض في أوردتنا, والهباب الأسود لحرائق بيوتنا وأعصابنا, يسرق الضوء من عيوننا, وما تبقى من نور أحلامنا, فمن يقنع الشيطان أنه ما عاد قادراً على إيلامنا, فقد صرنا نحن الألم, ولذلك سنبقى نقول: لا, فلن يضيرنا, أكثر ما ضرنا.