الضالــون هــم الفئــة الثالثــة
عبد الرحمن غنيم – كاتب وباحث من فلسطين
لا يظنّن أحد أنه في بحثنا عن “الفئة الثالثة” سنجد الطريق أمامنا معبداً, بل على العكس من ذلك, سنجده معقداً، فنحن أمام فئة يفترضُ أنها تظهرُ ما لا تبطن, أو تزعم الإيمان بما لا تؤمن, أو أنها حادت عن جادة السواء لسبب أو آخر، وحيث أنه متى وجد الخادعون وجد المخدوعون, فإن الحكم على الضمائر يبقى للعالم بالسرائر.
هناك حقيقة أساسية تفرض نفسها علينا بداية, وهي أن البحث عن هذه الفئة, وإن كان موقعها “بَيْنَ بين”, لا يمكن أن يكون بين الكافرين، والسبب في ذلك واضح, وهو أن أوّل وصفٍ للتعريف بهم في القرآن تمثل بقوله تعالى (ومن الناس من يقولً آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)(البقرة8) وهذا الوصف يعني منطقياً أننا لن نجدهم بين الكفار، وإنما يجب أن نبحث عنهم بين المؤمنين أو مدّعي الإيمان.
الإيمان لغوياً : ضدّ الكفر، والإيمان: التصديق, ضد التكذيب. ونحن أمام فئة تقول (آمنا بالله وباليوم الآخر), وهذا يعني –ولو ظاهرياً– أنها نبذت الكفر, كما يعني –ولو ظاهرياً أيضاً– أنها صدّقت الدعوة إلى الإيمان، فكيف يمكن في هذه الحالة فهم القول عنهم (وما هم بمؤمنين)؟.
إن الحكم هنا هو حكمٌ إلهي، والحكم الإلهي لا يأخذ بالظاهر وحده بل يأخذ بالباطن وما تخفي السرائر, مثلما يأخذ بمقومات الإيمان، وهذا هو الجانب الأساسي من جوانب المسألة، ويمكننا فهم الأمر أكثر بالتأمل في قوله عز وجل عن الأعراب (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً) (الحجرات14).
هنا نجد تمييزاً بين الإيمان وبين الإسلام، والإسلام: إظهار الخضوع والقبول بما أتى به النبي (ص) وبه يُحقنُ الدم, فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقادٌ وتصديقٌ بالقلب, فذلك الإيمان الذي يقال للموصوف به مؤمن مسلم. وللإيمان عدا عن إظهار الخضوع والقبول بالدعوة شروط, وهذا ما نستخلصه من قوله تعالى [إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون] (الحجرات15).
إن قوله تعالى [لم يرتابوا] ينصب على ذلك البعد الباطن الذي لا يعلم بحقيقته إلا رب الناس, وقوله [وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم] هو الترجمة العملية للإيمان, فالمؤمن مظهرٌ من التصديق مثل ما يبطن، وفي التنزيل [يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين] أي يصدِّق الله ويصدق المؤمنين، فالشرطان إذاً متلازمان إذا حدث خللٌ في أحدهما اختل الاثنان، ومن هنا نستطيع أن نفهم من قوله تعالى [ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين] أنهم افتقدوا أحد شرطي الإيمان أو كليهما، فالإيمان الظاهري لا يغني عن التصديق الفعلي, والتصديق الفعلي لا يغني عن الالتزام بما يفرضه الإيمان.
وحين نذهب إلى الحديث الشريف, نجد أنفسنا أمام دلالة للإيمان تستدعي التأمل، وعن أنس أن النبي (ص) قال: “المؤمن من أمنه الناس, والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل رجلٌ الجنة لا يأمن جاره بوائقه” ويكفي أن نقارن بين هذا الحديث وبين ما فعلته الجماعات الإرهابية التكفيرية لنرى أن الآية 8 من سورة البقرة تنطبق على هذه الجماعات، إنهم يدّعون الإيمان, لكنهم ينتهكون أمن الناس، ولنلاحظ أن الحديث ذكر الناس بشكل عام بحيث لا تبقى لهؤلاء حجة, وتتأكد دلالة هذه الملاحظة من قوله إن “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، ومن الجدير بالملاحظة أن منتسبي هذه الجماعات يزعمون “الهجرة للجهاد” بينما يقول لنا الحديث ببساطة إن “المهاجر من هجر السوء” فهؤلاء هجروا السبيل القويم وهاجروا إلى السوء، فهم يسيرون باتجاه معاكس.
وفي الحديث عن ابن عمر قال: “أتى رجلٌ رسول الله (ص) وقال: مَن المهاجر؟، فقال: من هجر السيئات، قال: فمن المؤمن؟، قال: من ائتمنه الناس على أنفسهم وأموالهم، قال: فمن المسلم؟، قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قال: فمن المجاهد؟، قال: من جاهد نفسه”. ولا نعتقد أننا بحاجة إلى شرح ما يعنيه هذا الحديث من كشف حقيقة من يمارسون تحت شعار الإيمان نقض كل شروط الإيمان.
وفي “اللسان” قيل للخليل: ما الإيمان؟، قال: الطمأنينة، قالوا له: أتقول أنا مؤمن؟، قال: لا أقوله, وهذا تزكية. ولو نحن نظرنا إلى الجماعات الإرهابية التكفيرية, بما فيها جماعة الإخوان المسلمين, لوجدناها جميعاً تكفّر الآخرين وتجهلهم وتزكّي نفسها، وفي هذه الحالة ينطبق عليها قوله تعالى [ألم ترَ إلى الذين يزكّونَ أنفسهم بل اللهُ يُزكّي من يشاءُ ولا يظلمون فتيلاً+ أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً] (النساء 49و50).
قبل أن نتابع البحث في مواصفات مَن يكفرون الغير ويزكون أنفسهم, يجدر بنا الوقوف عند ملاحظة في غاية الأهمية, هي أن الظاهرة التي نتقصّى أبعادها, إنما وجدت بعد البعثة الإسلامية وليس قبلها، وأهمية هذه الملاحظة تكمن في الحقيقة الأساسية القائلة إن القرآن الكريم اعتمد تصنيفاً ثلاثياً بشكل لا يقبل التأويل, ولكن الجماعات التكفيرية جاءت لتعتمد تصنيفاً ثنائياً, وهي بذلك تتستر على حقيقة أنها هي من تمثل الفئة الثالثة.
من خلال بحثنا عن الفئة الثالثة التي لا تندرج تحت تعريف المتقين المؤمنين, ولا تحت تعريف الكافرين, نستنتج أن الفئة التي أعطيناها بداية تسمية “المخادعين المفسدين الضالين” من الأنسب أن نطلق عليها حصراً تسمية “الضالين”، وهذه التسمية جاءت الإشارة إليها في التعريف بها في قوله تعالى [أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى] (البقرة15) كما جرت الإشارة إليها أيضاً في قوله عز وجل [فريقاً هدى وفريقاً حقّ عليه الضلالةُ أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون] (الأعراف30).
إن وصولنا إلى هذا الاستنتاج, أو بالأحرى إلى هذه التسمية, سيقودنا إلى استنتاج آخر في غاية الأهمية, وهو أن التعاريف الواردة في الآيات 1–20 من سورة البقرة, إنما هي التصنيف الوارد في فاتحة الكتاب (السبع المثاني) وذلك في قوله عز وجل [إهدنا الصراط المستقيم+ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين] (الفاتحة6و7) فالذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون المتقون, والمغضوب عليهم هم الكافرون, وعدا هؤلاء وأولئك توجد فئة [الضالين].
إنه لأمر مهم في هذا السياق أن نميز بين نمطين من الضلالة: ضلالة ما قبل الإسلام أو ضلالة الكافرين, وضلالة ما بعد الإسلام أو جنوح المؤمن أو المسلم الى الضلالة.
لعل ثنائية التمييز بين الهدى والضلالة قبل البعثة الإسلامية يعبر عنها الشاعر الجاهلي لبيد في قوله:
مَنْ هداهُ سبلَ الخير اهتدى
ناعمَ البال ومَن شاءَ أضلّ
هنا نحن أمام ثنائية الهدى والضلال, أو بين الخير والشر كما هو الحال في الديانات الثنوية، ومثل هذا التصنيف الثنائي الذي كان سائداً نجدُ التأكيد عليه في القرآن الكريم في مواضع عديدة، إذ يقول تعالى [إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يُضلّ], كما يقول تعالى [من يضلل اللهُ فلا هادي له], ويقول سبحانه وتعالى [يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء].
إن الضلال والضلالة لغةً هي ضد الهدى والرشاد، وكانت صفة الضلال والضلالة تشير أصلاً إلى الكفار، وهذا ما نفهمه من قول سيدنا إبراهيم عن الأصنام [ربّ إنهنّ أضللنَ كثيراً من الناس] أي أنّ كثيراً من الناس ضلوا بسببها لأن الأصنام لا تفعلُ شيئاً ولا تعقل، وكذلك قوله تعالى [وما كيد الكافرين إلا في ضلال] أي يذهب كيدهم باطلاً ويحيق بهم ما يريده الله تعالى.
والمهم هنا أن الضلال جاء مقترناً بالكفر، وهذا ما يتأكد أيضاً في قوله عز وجل [ومن يشركُ بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً] (النساء116) وهنا نلاحظ تمييزاً بين ضلال وضلال بعيد، فالشرك بالله يأخذ المرء إلى الضلال البعيد الذي هو الكفر، كما يقول تعالى [ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى اللهُ ومنهم من حقت عليه الضلالةُ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين] (النحل36) فالمكذبون هنا ومن حقت عليهم الضلالة هم من الكافرين.
من حق المرء أن يتساءل: إذا كانت الضلالة في الأصل دلالة على الكفر ونقيضاً للهدى فما هي الاعتبارات أو التطورات التي قادت إلى التمييز على أساس ثلاثي بحيث بات “الضالون” يمثلون فئة ثالثة بين المؤمنين والكافرين؟.
إن الأمر هنا يرتبط بضلالة المؤمن, وهي بلا شك تختلف عن ضلالة الكافر، وهذا ما نستخلصه من قوله عز وجل [قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون+ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون] (الجاثية14و15) فلا أحد يستطيع الافتراض بأن فئة المؤمنين تتصف كلها بالتقوى الكاملة, إذ لا بد من وجود سيّئات الى جانب الحسنات, وتجاوزات إلى جانب الالتزام, ولو لم تكن السيئات والتجاوزات واردة لما كانت المغفرة واردة، فالتقوى هي مسألة نسبية تختلف من إنسان إلى آخر, ولكن نقصها لا يعني فقدان الإيمان، وهذا ما يتأكد من قوله عز وجل [وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيّاً+ ثم ننجّي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيّاً] (مريم71و72).
هذا يعني أن أسوأ خطيئة يمكن أن يقع فيها الإنسان هي الظلم، والظلم – كما هو معروف – نوعان: إما أن يكون ظلماً للنفس بالشرك أو أن يكون ظلماً للآخرين بالإفساد والعدوان.
ولكي نتثبت من نسبية التقوى, لا بدّ أن نقارن بين ما جاءَ في هذه الآية وبين قوله عز وجل عن أصحاب الفوز العظيم [ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون+ الذين آمنوا وكانوا يتقون+ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم] (يونس62–64) فنحن إذن أمام مؤمنين [يتقون] –ربما بقدر ما يستطيعون– ينالون [الفوز العظيم] وأمام مؤمنين [اتقوا] يغفر لهم وينجون [ثم ننجّي الذين اتقوا] (مريم72) ويبقى أن الذين اتقوا [ولم يلبسوا إيمانهم بظلم] هم الأقرب إلى نيل المغفرة، ويتأكد هذا أيضاً من قوله تعالى [يثبّت اللهُ الذينَ آمنوا بالقول الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة ويضلُّ اللهُ الظالمينَ ويفعلُ اللهُ ما يشاء] (إبراهيم27) وهنا نفهم أن الظلم هو أسوأ دوافع وأشكال الضلال.
والآن, وبعد أن تبين أن فئة “الضالين”, وفي إطار التصنيف الثلاثي الذي اعتمده القرآن, إنما هي فئة انحرفت عن فئة المؤمنين, صار بوسعنا أن نتابع خصائص هذه الفئة من مدّعي الإيمان [وما هم بمؤمنين].
يقول تعالى عن هؤلاء [يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون] (البقرة9) والخدعُ لغة إظهار خلاف ما تخفيه، وقيل في تفسير [يخادعون الله] يخادعون أولياء الله, وفي تفسير [يخادعون الله وهو خادعهم] قال أبو بكر: يفسدون ما يظهرون من الإيمان بما يضمرون من الكفر كما أفسد الله نعمهم بأن أصدرهم إلى عذاب النار، وقال ابن الأعرابي بأن الخدع هو منع الحق، ولكن لكي نكون أقرب إلى فهم المسألة دعونا نقول بأن ادّعاء هؤلاء بأنهم في كل ما يفعلون إنما ينفذون أوامر الله ومشيئته, وينطلقون من الإيمان به وبحاكميته, إنما يمارسون عملية خداع مزدوجة: فهم من جهة يخادعون الله بادعاء أنهم فيما يفعلون ينفذون مشيئته وحكمه, ويخدعون الذين آمنوا بادّعاء أن ما يفعلونه تعبير عن الإيمان, ويخدعون أنفسهم إذ يتصورون أنهم في مقام الطاعة لله وليس في وضعية التمرد على أوامره ونواهيه، وهذا كله يمكن أن يحدث في حالة ذهابهم إلى الغلو والشطط. وهنا يصعب علينا أن نسلم بقول من قال بأنهم يقومون بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر, إذ أنه لو صح هذا التفسير لصنفوا ضمن فئة الكافرين وليس مع فئة الضالين.
ولنلاحظ أنه بصدد هذه الآية [يخادعون الله والذين آمنوا] لم يرد ذكر الرسول (ص) مما يدلل على أن التعريف لا يتعلق حصراً بالمنافقين ولا بزمن البعثة المحمدية, وإنما هو يتعلق بظاهرة يمكن أن تظهر في أزمنة لاحقة، ولنلاحظ أيضاً أن قوله تعالى [وما يشعرون] ينفي أنهم يتظاهرون بالإيمان ويضمرون الكفر, فلو كانوا يضمرون الكفر لكانوا يشعرون بما يضمرون، وهذا يعني أن المشكلة في جوهرها فكرية عقلية ونفسية.
وما يؤكد كونها فكرية وعقلية ونفسية قوله تعالى [في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللهُ مرضاً ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون] (البقرة10) وقد قيل في التفسير إن المرض هو سوء الاعتقاد، ونحن نقول إن سوء الاعتقاد قد يكون متمثلاً بالغلو أكثر من ارتباطه بالتفريط، فالتفريط يأخذ صاحبه إلى قصور في التقوى أو إلى الفسق, وأما الغلو فيمكن أن يأخذ صاحبه الى ممارسة الإفساد، والحالة الأولى قد لا تخرج صاحبها من فئة المؤمنين, أما الحالة الثانية فإنها قد تؤدي إلى ذلك, وتنقل المرء من فئة المؤمنين المتقين إلى فئة الضالين، ومن يمارس الإفساد إنما يظلم الآخرين.
إن هذا ما يتأكد أيضاً من قوله عز وجل بعد ذلك مباشرة [وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون] (البقرة11) ولنلاحظ هنا أن الحوار إنما يتم بين فئة المؤمنين وفئة الضالين المفسدين, ولا مكان فيه لفئة الكافرين, إذ أنها بمعزل عن هذا الحوار، ولقد ذهب البعض في التفسير إلى القول بأن الإفساد يكون بإثارة الفتن وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم, وتثبيط همم الناس عن الإيمان, وأنهم قالوا إنما نريد الإصلاح بين المؤمنين وأهل الكتاب.
وهذه كلها أو معظمها كما نلاحظ اجتهادات من خارج نص الآية, أساسها أن المفسر أراد الربط التعسفي بين الضالين والمنافقين, وإعادة المشكلة إلى زمن البعثة المحمدية حصراً، لكن هذا الربط يبتعد عن منطق التعريف الجامع المانع، فالآية أو الآيات لا تنصب على واقعة أو وقائع معينة وإنما تتناول ظاهرة ربما كانت زمن البعثة المحمدية أو زمن نزول الآيات لا تزال في علم الغيب.
ويكفي هنا القول بأن “الضالين” يمارسون الإفساد في الأرض بدافع فكري ونفسي مدّعين أو حتى معتقدين بأنهم يمارسون الإصلاح، وعندئذٍ, يمكننا أن نحاكم منطق وسلوك العديد من الحركات التي عرفتها التجربة الإسلامية قديماً وحديثاً, والتي يمكن تصنيفها ضمن “الفئة الثالثة” أي ضمن “الضالين” بل يمكن إدخال حركات فكرية دينية غير إسلامية في نطاق دراستنا لهذه الظاهرة, إذ أن التجربة اليهودية والمسيحية لا تخلو من وجود مثل هذه الحركات التي مارست الإفساد بدعوى الإصلاح.
إن قوله تعالى [ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون] (البقرة12) يؤكد ما ذهبنا إليه، فهم -وانطلاقاً من رؤيتهم الفكرية المرضية- لا يشعرون بأنهم يمارسون الإفساد, بل يعتقدون خلاف ذلك تماماً، وهذا ما يجعلنا نميّزهم عن المنافقين, ونرفض تعريفهم بالمنافقين, إذ أن تذبذب المنافق يرتبط بالمصلحة أو بمشاعر الخوف والجبن أكثر مما يرتبط بدافع فكري.
إن ما يؤكد صحة الاستنتاجات التي وصلنا إليها حتى الآن، هو قوله تعالى [وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناسُ قالوا أنؤمنُ كما آمن السفهاءُ ألا إنهم هم السفهاءُ ولكن لا يعلمون] (البقرة13) وقد قيل في التفسير إنه إذا قيل لهؤلاء “المنافقين” آمنوا بالله وبما جاء به محمد (ص) من عند الله [كما آمن الناس] من الصحابة الكرام –وواضح أن هذا إقحام– إيماناً صادقاً مخلصاً [قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء] الجهال الضعفاء من قومنا, فنصبح وإياهم في منزلة واحدة, فرد الله سبحانه وتعالى عليهم [ألا إنهم هم السفهاءُ] الجهال في دينهم الضعفاء في تفكيرهم [ولكن لا يعلمون] حقيقة أمرهم.
واضح أن التفسير على هذا النحو ابتعد عما هو كلي إلى الجزئي, وعن العام إلى الخاص, إذ يكفي هنا القول بأن الإيمان المقترن بالتقوى قد جرى تعريفه في سورة البقرة (الآيات1–5) وأنّ تجاوزُ هذا الإيمان –ولو غلوّاً- دون أن يصل إلى درجة الكفر يدخل أصحابه في فئة “الضالين”.
لكنّ هؤلاء يسفهون ويجهلون إيمان المؤمنين, وهذا ما نلمسه عملياً في منطق حركات مثل الوهابيين والإخوان المسلمين والقاعدة, وخاصة في المنطق الذي ساقه سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق” كما سيتضح معنا لاحقاً بالتفصيل، وهم بهذا الموقف يزكّون أنفسهم, ويدّعون لأنفسهم التفرّد بالإيمان دون الآخرين مخالفين قوله عز وجل [إن ربك هو أعلم من يضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين] (الأنعام117) ومن الواضح حتى الآن أن الربط المتكامل بين الآيات يشير إلى فئة أو فئات تتصف بالغلو في العقيدة.
بعد ذلك يقول سبحانه وتعالى عنهم [وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون] (البقرة14) ومما قيل هنا في التفسير إنه إذا لقي المنافقون المؤمنين أظهروا لهم الإيمان تغريراً وخداعاً [وإذا خلوا إلى شياطينهم] وإذا انفردوا برؤسائهم (قالوا] لهم [إنا معكم] على دينكم [إنما نحن مستهزئون] ساخرين بالمؤمنين، وهذا التفسير يفترض أن المنافقين في المدينة كانوا منظمين, وكان لهم رؤساء, وكانوا قادرين على ممارسة الإفساد في الأرض, وكانوا يزاودون على الرسول وصحابته, وهذا ليس صحيحاً, ولكن لو نظرنا إلى المسألة من زاوية العصر الذي نعيش فيه, لانفتحت أمامنا آفاق أخرى لفهم الدلالة، فالآية تشير إلى وجود تنظيم أو تنظيمات علنية أو سرية لمن يمثلون النهج الموصوف, وأن لهذه علاقات مع أطراف أخرى منها من تتظاهر بصداقتها, ومنها من تواليها، ويكفي هنا أن نعيد إلى الذاكرة سلوك خالد مشعل الانتهازي الإخواني وما انتهى إليه, لنفهم أن هذا الجانب القائم على النفاق في سلوك “الضالين” إنما هو أحد وجوه ضلالتهم المركبة.
ويقول تعالى بعد ذلك [الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون] (البقرة15) وإذا كانت كلمة [طغيانهم] تعني التمادي في الإفساد وإيذاء الناس, فقد قيل في دلالة [يعمهون] أنها تعني حيارى بين الكفر والإيمان لا يجدون راحةً ولا اطمئناناً، وهذا التفسير يأخذنا بعيداً عن دلالة [طغيانهم] إذ أن الطغيان يعني إلحاق الأذى في محاولة منهم لبسط سيطرتهم, وقد يكون هذا الأذى هو الإرهاب وكل ما يتبعه من صنوف الإفساد, ولكن دون أن يفلحوا في نيل مرادهم.
وفي التوصيف العام لهؤلاء, أو في خلاصة المواصفات, يقول عز وجل [أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين] (البقرة16) وقد قيل في التفسير إنهم اشتروا الكفر بالإيمان، لكن سبق وبيّنا أن ضلالة المؤمن غير ضلالة الكافر، وواضح هنا تماماً أنهم انتقلوا من فئة المؤمنين المتقين (التي تمثل الهدى) إلى فئة “الضالين” التي تمثل الضلالة, وأنه ما من مبرر قط لإقحام كلمة الكفر في هذا السياق، ولعل هذا ما يفسر الاتجاه العام لدى علماء الدين الإسلامي للامتناع عن تكفير “الضالين” من منتسبي الجماعات الإرهابية التكفيرية.
وهكذا نجد أن الآيات 8 – 16 من سورة البقرة تقدّم لنا تعريفاً جامعاً مانعاً لفئة “الضالين” وهذه الفئة في تركيبتها الفكرية والنفسية والتنظيمية هي أكثر تعقيداً من ظاهرة المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض أو المرجفين، فهي أقرب إلى الغلو منها إلى التفريط, وصفاتها تنطبق بشكل أكيد على الجماعات الإرهابية التكفيرية التي ضلت في سلوكها السبيل القويم، وهذا ما سيتأكد لنا أيضاً من مناقشتنا للفكر الذي تعتمد عليه هذه الجماعات, والذي هو أساس الضلالة.
(للبحث صلة)