الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

طفولة غادرها الفرح

سلوى عباس

بصوت تخنقه حشرجة الفجيعة كانت الأم الثكلى تستغيث لإنقاذ عائلتها من القذيفة الصاروخية التي أصابت منزلها، تستنجد بجيرانها أن يهبوا لنجدتها وهي التي أصبحت المسافة بينها وبين الموت أضيق من رفة جفن، كانت تلك الأم تناجي طفلتها التي لم تتجاوز سنواتها الثمانية فتتلعثم عباراتها بالخوف والوجع، مرة تناديها لتلعب ومرة لتتناول فطورها..

ما هو ذنب هذه الطفلة التي كانت ترفل بالحياة كيمامة من بياض النهار أن تسرق منها فرحتها بألعابها التي لم تسمح لها القذائف والتفجيرات أن تناجيها أحلامها وشوقها، هذه الطفلة التي في غفلة من عمر الألم تحولت على شاشة التلفاز إلى خبر عاجل، كانت كعصفور أطبقت عليه سحابة، واستسلمت لغفوة أبدية، فالطفولة مستباحة براءتها والأمومة مطعونة في صميم الروح، والشباب مسروقة زهوره، والشيخوخة منتهكة حرمتها، وهؤلاء الأطفال لا ذنب لهم إلا أنهم جاؤوا إلى الحياة يحملون براءتهم كفناً يلف أحلامهم وأمانيهم التي أصبحت سياجا من خوف ورهبة، هؤلاء الأطفال الذين يعيشون أيامهم حلماً يتبدى كطير أبيض كلما يمدون أيديهم إليه يتمادى في البعد ويقفل على سحابة مثقلة بالرصاص والقتل، الأمكنة موحشة والزمن بطيء، وأبناء سورية مازالوا رغم الحرب التي يعيشونها يرسمون صباحاتهم بدمائهم لملاقاة غدهم المشرق بالنصر، يتأبطون الشمس نبراساً يستمدون منها القوة، ويمسكون قلوبهم يهدئون من اضطرابها قبل أن تذوب في صدورهم، ويبقون عيونهم مفتوحة خوفا من أن يغافلهم الغدر وهم نائمون، فممالك النوم هجرت عروشها، ورسم ظليل من ألوان الروح يسكب على الأنحاء استطالات السهر.. ذاكرتهم المثقلة بالألم تختزن الكثير من المشاهد المؤلمة التي ستبقى حاضرة في مخيلتهم ما شاءت لهم الحياة، فكيف يمكنهم بعد كل ما عاشوه ويعيشونه أن يستبدلوها بذاكرة جديدة لتاريخهم، ويعيدون تنظيم الزمن على غير ما كانوا يرغبون، وكيف يغادرون وطناً أطلقوا أرواحهم في مراميه وكل المسالك تسير بهم إليه، يعبرون نحوه بحراً من الحنين، وأمام كل هذا العذاب لم يكن أمامهم إلا يغلقوا باب عذاباتهم ويبقوا على رصيف حيرتهم وارتباكهم، متمسكين بأرضهم التي رتبوا بديهياتهم ومسلماتهم على حمايتها والحفاظ عليها..

كيف لأطفال سورية، وهم أكثر المستهدفين بهذه الحرب أن يوقفوا شريط الذكريات التي استوطنت كيانهم، وان ينسوا هدير القذائف وقصفها حين تعبر أصواتها فضاء أرواحهم، تمزق هدوء المكان حولهم وتصنع عاصفة ماطرة من القتل والتدمير، وما ذنب هؤلاء الأطفال ليقتحم الطغاة نومهم وأحلامهم ويعبثوا بليلهم ويقلبوه قطعة من ظهر النهار، ويشعلوا شمساً في عيونهم توقظ الكون في غير موعده.. إلى ماذا سيحيلهم هذا الزمان البارد الذي سيأتي، وأي اتقاد سيضطرم في قلوبهم أمام هول المشاهد التي يعيشونها.. هذه المشاهد المؤلمة التي نستعيد عبرها أعواماً من الخيبة والانهزام والعجز أمام أسئلة تطرحها عيونهم دون أن تلقى أجوبة لها.. ماذا نقول لهؤلاء الأطفال الذين يحلمون كل ليلة بصبح يستنشقون فيه شذى آخر للحياة، لكن حلمهم يتبدد عندما يجدون أنفسهم في هاوية من الخراب والدمار..

سنوات عاصفة بالخوف والموت عاشها أبناء سورية ولا زالوا يعيشونها وهم مهددون كل لحظة بتجدد الحروب واغتيال أمانهم، لكن عيونهم معلقة بالسماء ترنو لغيوم الخلاص التي بهمة جنودنا ميامين أمطرت سلاماً وأمانا وغسلت آلام أرواحهم وعذاباتها، وترسم ليلهم ونهارهم وكل ما تبقى من أحلامهم..