معركة الاستقلال الجديد
كشف العدوان الثلاثي على سورية، التي تحتفل اليوم بذكرى استقلالها عن المستعمر الفرنسي، أن ما هو مطروح أمام السوريين في المرحلة المقبلة ليس أقل من معركة استقلال وطنية جديدة في وجه حلف استعماري غربي يحاول إعادة عقارب الساعة إلى زمن يفترض أن البشرية قد تجاوزته بعد أن دفعت تكلفته عشرات الملايين من الضحايا في حربين عالميتين نتج عنهما عصر يُفترض أنه عصر حقوق الإنسان بأجيالها المتعددة، وحق تقرير المصير أس هذه الحقوق وركيزتها الطبيعية.
والحال فإن الدلائل على هذا الاستعمار لا تعد ولا تحصى، ولا ينال من جديتها الدوافع التي قدّمتها هذه الدول تبريراً لعدوانها، لأن النتائج المتوخاة، أي الاركاع والاستتباع، لم تتغيّر بين الماضي والحاضر، فكما استتر الاستعمار القديم برداء التحديث و”التنوير” لشعوب قاصرة عن حكم نفسها..!!، واستند إلى شرعية “المجتمع الدولي الأبيض” حينها، فإن الجديد يستتر اليوم بكذبة الإنسان وحقوقه، ويدّعي أيضاً التزام “الشرعية الدولية”، على ما “أفصح” الرئيس الفرنسي حين وصف “بلطجته” بالشرعية لأنها تمّت “في إطار المجتمع الدولي” كما يراه ويعرّفه، لا كما استقر عليه الأمر بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء منظمة الأمم المتحدة، التي تمنع مبادئها هذا الفعل وتجرّمه ما لم بتم وفق قواعد محددة لم تتوافر لحلف القتلة هذا، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن جملة “ماكرون” السابقة تشي بحنين مضمر إلى زمن “عصبة الأمم” التي شرعنت حينها استعمار الغرب لبقية أطراف العالم تحت اسم الانتداب، وربما يكون الهدف من هذه الإشارة التأسيس لغوياً لمنظمة دولية جديدة لا تضم سوى دول العدوان ومن يدور بفلكها من الأتباع الصغار هنا أو هناك.
ما يؤكد هذا النفس الاستعماري أن دول “العدوان الثلاثي” لم تكتف بما اقترفته أيديها، بل سارعت إلى البناء عليه في طرح مشروع قرار جديد في مجلس الأمن يربط بين آلية تحقيق جديدة في “الكيماوي المزعوم” تمسك بمقدماتها وبالتالي تتحكّم بنتائجها، وبين تفعيل “جنيف” وفق رؤاها ومصالحها، وتلك آلية ربط لا تصنعها سوى عقلية استعمارية خالصة، لكنها، وبسبب غرور القوة وحماقة ساسة الصدفة الذين يحكمون هذه الدول، عقلية مريضة لم تستطع رؤية كمّ التغيّرات الحاصلة في الواقع الميداني والسياسي، محلياً وإقليمياً ودولياً، ولم تع أن هذه التغيّرات دفعت بالعدوان الجديد، دون قصد منهم بالتأكيد، إلى أن يصبح محطة تأسيسية كاشفة عن مستقبل معادلات الصراع في سورية والمنطقة، وهي محطة يبدو بحسب محللين كثر أنها قد أصابت مسار “جنيف”، بتفسيره الغربي، بالعطب، و”ربما تكون قد أدّت إلى نسفه بالكامل”.
هي إذاً معركة استقلال وطني جديد، وكما كان للاستعمار السابق “نخبته” المحلية التابعة، فكذلك للاستعمار الحالي “نخبته” التي تندب اليوم حزناً على قصور الصواريخ “الجميلة والجديدة والذكية” عن قتل المزيد من السوريين، وهذه المرة يشاركها في الندب واللطم “نخبة” أخرى من الحكام العرب – كما أفصحوا علناً في قمتهم البائسة الأخيرة – الذين باعوا الأوطان والشعوب لقاء كرسي حكم محكوم بدوره من أي موظف درجة ثالثة في وزارة الخارجية الأمريكية.
بيد أن للتاريخ دروسه وعبره التي لا تكذب ولا تغش، فكما سبقت المجزرة المروعة التي ارتكبها المستعمر الفرنسي في البرلمان السوري الاستقلال الأول وكانت دليلاً كاشفاً عنه وعليه، فإن العدوان الثلاثي الجديد، الذي شاركت فيه فرنسا ذاتها، هو دليل انكشاف كامل لمشروع المستعمرين الجدد وأسمائهم من جهة، كما أنه، بنتائجه والتصدي السوري الناجح له، دليل بيّن، من جهة أخرى، على اقتراب موعد الاستقلال الجديد، لأن “المهمة لم تنجز” بنجاح، فـ”اللعبة” انتهت بصورتها السابقة، والكلمة الأخيرة ستكون لمن أفشلها وللأصوات التي ارتفعت أمس في ساحة الأمويين لتقول إنها تعرف أنها تخوض معركة استقلال جديد سيكون لها دور بارز بتحديد طبيعة التحولات الإقليمية والدولية وأشكال تجلياتها القادمة، وهي مصممة على المضي بها إلى النهاية.
أحمد حسن