يوميات الثورة السورية الكبرى أسطورة الجلاء خطّها الأجداد على صفحات التاريخ.. والأحفاد يواصلون ملحمة السيادة ومقاومة الإرهاب
المتابع لقصص المجاهدين والثوار في كفاحهم ضد المستعمر الفرنسي يقرأ جيداً كيف صنع أجدادنا الجلاء وحققوا الاستقلال، من تلك القصص قصة الثوار في وادي السرحان، حيث عاشوا في ضنك من الظروف، وقد مرت عليهم فترة طويلة لا يعرفون فيها طعماً للخبز، فهم يأكلون مما توفره الطبيعة من نباتات كالأميصع والقطف والعكوب، أو من حيوانات كالضب والزواحف والأفعى والغزلان إذا توفرت.
في هذه المرحلة من الشقاء والجوع والظمأ أرسلت انكلترا، “بالتنسيق مع فرنسا، وهما وجهان لعملة واحدة”، شاحنات تحمل الغذاء والمؤونة إلى وادي السرحان، وتفاجأ الثوار هناك بالجنود الانكليز يفرشون موائد الحديد “القابلة للطي”، ويمدونها على مساحة واسعة من الأرض، ويضعون عليها الأطعمة الفاخرة، والمياه الصافية، في هذه الأثناء يدخل الضابط الانكليزي الذي يقود هذه العملية، ومعه المترجم، إلى القائد العام للثورة السورية الذي كان يجلس على بساط صغير رث لا يقي رجليه من رمال الأرض، في بيت متواضع من الشعر.
لم يقف القائد العام الباشا سلطان لهذا الضابط، وكانت عادة لديه تجاه ضباط العدو، حيث جلس الضابط الانكليزي إلى جانبه، وبدأ يتكلم مع المترجم بعد أن أحضر الجنود مجموعة من صناديق المال إلى داخل بيت الشعر، ووضعوها أمام القائد العام الأطرش، قال الضابط للمترجم: قل لسلطان إن هذا المال حصته وحده، وذلك الطعام له ولرجاله، أجاب سلطان باشا متكلماً مع المترجم :”اسأل سيدك ماذا يريد مقابل هذا العطاء”، يجيب الضابط: “بأن تتخلى عن قيادة الثورة السورية، وأن تعلن ولاءك لفرنسا”، وعندما ترجم الطلب قام سلطان باشا بحفن حفنة من رمال الأرض، وقال بغضب: “إن حفنة من تراب بلادي أثمن من ذهب انكلترا كلها، أخبر أسيادك بأننا على درب الجهاد حتى آخر قطرة من دمنا”، في أثناء هذا التفاوض حدث أن أحد الثوار الذين أنهكهم الجوع قد غافل الجنود واختطف من إحدى الموائد قطعة من اللحم، وأخذ منها لقمة في فمه، وحينها أتت عينه بعين سلطان باشا الذي نظر إليه بحدة، فخجل الثائر من موقفه الضعيف، وتفل ما في فمه، وألقى ما في يده.
شاهد الضابط الانكليزي هذه اللحظة الرهيبة، فعدّل من جلسته متأثراً بما رأى، وبعد أن ترجم جواب سلطان باشا للضابط، وقف أمامه واعتمر عمرته، وأدى التحية العسكرية لسلطان، وانصرف مع جنوده.
هي واحدة من المحطات الهامة من يوميات الثورة السورية الكبرى التي حققت الاستقلال، وكان للبعد الوطني في انطلاقة الثورة دور هام في تحقيق الاستقلال، حيث اتخذت تلك الثورة (الدين لله والوطن للجميع) شعاراً لها، أما أهدافها فقد حددها مجلس إدارة الثورة بعدة مطالب أهمها وحدة البلاد السورية، والاعتراف بدولة سورية عربية واحدة مستقلة استقلالاً تاماً.
دلالات وطنية
ويتحدث حفيد قائد الثورة السورية الكبرى المهندس ثائر الأطرش عن المعاني والدلالات الوطنية والقومية التي حملتها الثورة السورية الكبرى فيقول: لقد آمن الثوار بوحدتهم وقوتهم وكرامتهم وإرادتهم في تحرير أرضهم المغتصبة، وبرهنوا للعالم أجمع أن الإنسان العربي يأبى الذل والهوان، ويدافع عن أرضه وكرامته بالغالي والنفيس ضمن وحدة وطنية قلّ نظيرها، هذه الصفات التي جمعت أبناء الوطن، وكانت الصفة الأهم التي ميزت الثورة السورية الكبرى عبر شعارها الشهير “الدين لله والوطن للجميع” الذي اعتبره قائدها العام المغفور له سلطان باشا الأطرش مبدأ ونهج حياة وليس شعاراً فحسب، وكان لهذا الشعار الدور الكبير في توحيد صفوف الثوار السوريين بكل فئاتهم وأطيافهم على ساحة الوطن كله خلف هذا القائد في مقاومة الاستعمار الفرنسي الغاشم، حيث آمن ورفاقه بحرية الأمة العربية ووحدتها، فكان لهم دور بارز مع كافة أحرار الأمة في الثورة العربية الكبرى، وكان فرسان جبل العرب بقيادته في طليعة الثوار الذين وصلوا إلى دمشق، ورفعوا العلم العربي فوق دار الحكومة فيها بالاتفاق مع الشريف حسين للتدليل على عروبة الثورة، وفي الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، كان بيان الثورة الأول الذي دعا فيه الشعب السوري إلى الانتفاض ضد الاستعمار، مخاطباً إياه بعبارة: “يا أحفاد العرب الأمجاد”، تدليلاً على أن الثورة عربية، وكان من مطالب تلك الثورة في هذا البيان توحيد البلاد السورية، إضافة إلى شعارها آنف الذكر، وهذا موقف توحيدي وليس تقسيمياً، ووطني وليس طائفياً.
مآثر وبطولات
يستشهد بشار نصار حفيد المجاهد سليمان نصار بقول للمغفور له سلطان باشا الأطرش عندما طلبت منه صحفية ألمانية أن يوجز لها البطولات التي حدثت خلال الثورة فأجابها: لا يوجد حجر إلا وقلبته حوافر خيلنا، ولا توجد حفنة تراب لم ترو بدمائنا، ولكل مجاهد فينا قصص كثيرة من قصص البطولة والشهادة والفداء، وليست قصة واحدة، ويلزمنا لرويها تاريخ كامل، يقول: قد تكون هذه الإجابة هي الأبلغ عند الحديث عن الجلاء والاستقلال، والثمن الذي دفعه أجدادنا في سبيل ذلك، ويبقى المهم حالياً بالنسبة لنا هو الحفاظ على هذا الاستقلال، والنهج الذي جمع أبناء الوطن تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، وساروا عليه حتى تحققت أهداف ثورتهم ضد المستعمر الفرنسي، وعند الحديث عن الجلاء نتحدث عن المآثر والبطولات التي سطّرها رجالات الثورة الأحرار في معارك النصر والتحرير، وفي كل قصة من قصص البطولة برزت نساء مجاهدات سطّرن أروع الحكايا في الفداء والتضحية، حيث وقفت المرأة إلى جانب الرجل، وشدت من عزيمته، وكثيرات هن اللواتي كان لهن دور كبير في حماسة الثوار وتشجيعهم، بل حمايتهم من الخونة، وخدمتهم، ومداواتهم، ونقل الطعام والشراب لهم.
الوطن أولاً
يقول سليم القطامي حفيد المجاهد عقلة: كان الوطن عند عقلة أهم من كل إغراءات الحياة التي قدمت له من قبل الفرنسيين، لقد أعلن عقلة الثورة على الاستعمار الفرنسي من محافظة السويداء، وقتها بدأ اضطهاد ومحاربة عقلة، وقد حكم عليه بالإعدام وتم نفيه إلى الأردن، وبقي هناك /12/ سنة، وعاد في سنة 1937 منتصراً بانتمائه وإخلاصه وإيمانه بعروبته وإسلاميته وكرامة وطنه.
وكوننا أحفاداً مجاهدين يهمنا أن نحافظ على الإرث الوطني الكبير الذي قدمه لنا أجدادنا، كما أننا بموقعنا في هذا المجتمع نرفض أية مؤامرة تهدد استقلال هذا الوطن الغالي، وأجدادنا قدموا الكثير للوطن، ونحن ندعو ونتمنى أن تنتهي الأحداث، وتعود سورية كما كانت، وهذا أرشيفنا وتاريخنا وحسنا الوطني، ولن نقبل أي إغراء يهدد سلام الوطن.. إن هذا الإرث هو عبء ومسؤولية على الأحفاد، قدم لهم الأجداد التاريخ بنضالهم حتى نال الوطن استقلاله من العدو، وإن العدو القديم هو نفسه عدونا الحالي، وهدفه طمس التاريخ، والقضاء على معالمه، وإخفاء كل ما صنعه أجدادنا لنا من عز ونصر، وأضاف: عندما نفصل الشعوب عن تاريخها فإنها تعتبر منتهية، ويجب علينا أن نمشي ونرسم خطاهم، والروح الوطنية باقية حتى النصر بجهد أبنائنا وجيشنا الباسل.
دروس الجلاء
تبقى دروس وعبر الجلاء، وقصص البطولة التي رسمها مجاهدو الثورة السورية الكبرى في كافة بقاع الوطن والتراب، المعطّرة بدماء الشهداء، كلها حوامل نصرنا في تلك الحرب القذرة، كيف لا وقد اختلطت دماء الأحفاد بدماء الأجداد، وعانقت الجراح قلوب الأمهات في سماء الوطن لترسم ملامح النصر القريب، فالإرادة والإيمان والعزيمة والصبر والمقاومة هي المعاني الحقيقية للجلاء الذي هو على عظمته محطة مهمة نحو الجلاء الأكبر، يوم تحرير الإرادة العربية، واستعادة كل الحقوق المغتصبة.
رفعت الديك