أخبارصحيفة البعث

الجلاء وقيم الثورة السورية الكبرى

 

د. صابر فلحوط
الثورات العظيمة، لا يتحدث أبناؤها في ذكراها السنوية عن الإنجازات التي تحققت، والبرامج التي نفذت، والخطوات التي قطعت على طريق الأهداف الاستراتيجية للثورة، بل يتموضع الحوار المسؤول والحديث الثري حول الإخفاقات التي منيت بها الثورة، والعقبات التي حالت دون بلوغها أهدافها. وكل ذلك يتم تحت ظلال الاعتزاز بالحصاد الوفير للثورة، واستنفاد الطاقات وحرق المراحل لاستكمال ما لم ينجز في الطريق الطويل الذي يجسر الهوات بين السابق واللاحق من أجيال الوطن..
وعندما نكون في محراب الثورة السورية الكبرى التي قادها المناضل سلطان باشا الأطرش ورفاقه المجاهدون في سهول الوطن وسواحله ووهاده وجباله وبواديه، فلا بد أن نسجل للقادم من الأجيال من أبناء وأحفاد، كيف استطاع مجاهدو الجلاء وثورته الكبرى عام 1925 أن يحققوا جملة من الثورات عبر ثورة واحدة، وأن ينتصروا على أشرس أنواع الاستعمار الغربي بعدما انتصر آباؤهم وأجدادهم على المستعمر التركي الذي كاد يجهز على جسد الوطن بسرطان التخلف والظلامية الفكرية والعبودية القاتلة، فقد كانت – الثورة – استشرافاً للمستقبل، وتحديداً لوسائل المواجهة، وقد كان أول هذه الوسائل هي التمسك بالهوية العروبية نهجاً، وعقيدة، وأسلوب نضال، وأن الخلاص القطري متفرداً، تحت شعار البلد أولاً، يعتبر ضرباً من المستحيلات في مسيرة الثورات الوطنية والقومية، كما كان ثاني وسائل الثورة لتحقيق أهدافها هو الاغتسال من لوثة الطائفية والقبلية، والعشائرية، والعائلية وسواها من الأمراض الاجتماعية التي زرعها الاستعمار التركي والأوروبي في الذهن الجمعي للمواطنين، ومع عدم تجاهل دور الفكر والعقل والحكمة في مواجهة الأحداث الجسام، فقد رأى قادة الثورة أن (زرع السيف أخضر)، وأنه لا يدفع الشر إلا بالشر – ولهذا فقد جاء في مطلع بيانات الثورة السورية الكبرى الموجهة الى العرب الكرام في الدار العربية الواسعة قول الشاعر القومي:
يقولون وجه السيف أبيض دائماً فما أبيض إلا وهو أحمر بالدما
فإن يك دفع الشر بالخير حازماً فما زال دفع الشر بالشر أحزما
وكأني بجيشنا العقائدي الباسل قد رسخ هذه القاعدة الثورية في مواجهاته الأسطورية خلال السنوات السبع المنصرمة، فقد كانت المناقبية الساطعة والإكبار الهائل للتقاليد الوطنية في الشجاعة والبذل والفداء أبرز سمات قادة الثورة ومجاهديها الأبطال.
في ستينيات القرن الماضي أكرمني القدر أن أشهد لقاء للحكومة السورية التي تشكلت بعد حركة 23 شباط مع القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، وقد كان يمارس عمله كفلاح عربي في أرضه بعد انتصار الجلاء، في بستانه في قرية القريا في جبل العرب. وجه الدعوى لرئيس الوزراء وصحبه للجلوس تحت شجرة الزيتون التي كان يخدمها. وعندما هرع المرافقون لفرش الصحف على التراب كي يجلس فوقها الضيوف، قال سلطان: ( وصيتي لكم يا أبنائي أن لا تجعلوا أي فاصل بينكم وبين تراب الوطن). وتأتي ذكرى الجلاء هذه الأيام لتذكر أحفاد المجاهدين من أبطال جيشنا بقيم الرجولة، ومناقبية التضحية، مؤكدة أن نهر التضحية والشهادة سيبقى أميناً ومؤتمناً على مجراه من نبعه الثر الصافي الى مصبه القدسي الخالد . وأن كل بطل في جيشنا يحمل في وجدانه نبض الكبرياء والمقاومة فداء لترابه وتراثه وتاريخ أجداده وأجياله.. بهذا استحق جيشنا شرف الانتساب العريق لهذه المسيرة العملاقة التي مثلها رجال الثورة السورية الكبرى الذين صنعوا لشعبنا الجلاء الذي مهد الطريق واسعاً لميلاد ” البعث ” وثورة ” أذار ” “والتصحيح المجيد” بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد باني سورية الحديثة التي أصبحت تمثّل الرقم الأصعب في معادلات المنطقة، والذروة الأشمخ التي نفيء إلى ظلالها، والتبرك بها في الوطن العربي الأكبر..
تحية لمجاهدي الجلاء الأغر، قناديل الضياء في ليل العروبة الأليل.
وتحية لأحفاد مجاهدي الجلاء من أشاوس جيشنا الذي أبهر العالم بتضحياته، وإنجازاته، وبطولاته في الحرب الوطنية العظمى.
وكل التحايا لشعبنا العظيم، وقيادتنا السياسية مفولذة الأعصاب، وشهدائنا في هذا العصر وكل عصر..