ثقافةصحيفة البعث

الدلعونة.. وأصل الحكاية

 

 

دلعونة، غنتها صباح، وفيروز، ووديع، ونصري شمس الدين، وفؤاد غازي والكثير غيرهم من الفنانين الكبار: “دلي دل دلي دلي دلعونة، راحو الحبايب ما ودعونا”، ولم تزل تلك الدلعونة تتردد وبقوة على لسان كل من يريد أن يختبر نفسه بالغناء، إن كان ليحترفه، أو لمجرد تلبية رغبة ملحة بالبوح الذي يخرج على شكل آهات من القلب، فهي في رتمها الموسيقي، وإيحائها الكئيب والمواسي، المنبعث من بين نوتتها الموسيقية، ومفرداتها المتكئة على الحنين والشجن غالباً، تكاد تكون من أقرب الأنماط الموسيقية الغنائية إلى النفس– حتى لو “تفزلك” الكلاسيكيون بكلام آخر عن هذا في هذا- فمقابل كذا مليون من بين كل رجل وامرأة وطفل حتى يعرفوا الدلعونا ويرددوها، سنجد 100 في أفضل الأحوال يرددون شيئاً كلاسيكياً لباخ مثلاً.
ولكن من هذه الدلعونة.. وما حكايتها؟!.
“دلوني على عناة”، عبارة رددها عاشق قديم وهو يبحث عن محبوبته “عناة” التي انفصلت عنه، وهذه القصة هي واحدة من الأصول السورية الكنعانية التي نسبت “الدلعونة إليها”، إلا أن قصة سورية أخرى تحدثنا عن أصل الكلمة: الدلعونة مشتقة من اسم “عناة”، ابنة الإله “ايل”، وهي آلهة الخصب والحب والحرب عند الكنعانيين، وكانوا يسمونها الخطابة، حيث يتضرع الشباب الذين يرغبون بالزواج من حبيباتهم للآلهة “عناة” لمساعدتهم في الحصول على ما يريدون، فيقولون: “يا عناة يدك يا عناة”.
إلا أن للموسيقار والشاعر الكبير “زكي ناصيف” رأياً آخر عن أصول هذه التسمية، فأصلها، برأيه، سرياني، مؤلفة من أل التعريف السريانية “د”، وكلمة الـ”عونا” التي تعني “المساعدة، الرأي الذي يرجعها للاعتقاد الشعبي السائد عن الدلعونة، وأن أصلها يأتي من “مدّ يد العون”، إذ كلما أراد أهل القرية التعاون فيما بينهم لإنجاز عمل ما، مثل جني المواسم، أو سلق القمح، أو عند البناء، أو في مواسم القطاف، كانوا يتنادون “دلعونة” طلباً لمساعدة أهل القرية، وعند إنجازهم لهذه الأعمال، كانوا يعقدون حلقات الدبكة مغنين الدلعونة.
وفي عهد الحضارة العربية في بلاد الشام، انفصلت هذه الكلمة عن دلالاتها الأصلية في السريانية، وصارت تدل على الولع حينما تغنّى، ويدبك الناس على لحنها ومقامها، واستقلت الكلمة الدبكة، والأغنية عن مناسبتها المباشرة (العون)، فصارت دبكة “الدلعونة”، وتنوعت موضوعاتها حسب المناسبة: الأعراس، الأفراح والمآتم، كما للندم أو التشفي.
تنظّم الدلعونة على البحر السريع من بحور الشعر العامية، ومن المعروف أنّ التقطيع في بحور الشعر العامية يعتمد على النبرة الصوتية، على أن يتساوى مجموع النبرات الصوتية في كلّ شطرة.. تتألف الدلعونة من مطلع: “على دلعونة على دلعونة”، ثمّ شطرة ثانية تنتهي بروي: “نا” مثل “راحوا الحبايب ما ودّعونا”، ثمّ تأتي عدة أدوار، يتألف كلّ منها من بيتين، وكل منهما مؤلف من شطرين، أما قوافي الشطور الثلاثة فواحدة، وقافية الرابع “نا”.
لحن الدلعونة من جنس البياتي، ولا يتعدّى، شأنه شأن سائر الغناء الشعبي عادة، أربع نغمات، أما إيقاعها فيعود على نفسه في دائرية واحدة لا تتغيّر، تؤدّى الدلعونة عادة بمرافقة آلية بسيطة من واحدة أو أكثر من الآلات الموسيقية الشعبية كاليرغول، أو المجوز، أو الشبابة (ناي)، بطبلة ودونها، تتناسب الدلعونة بإيقاعها مع إيقاع الدبكة الشعبية، وتتفاعل في أدائها عدة أقطاب: منشد، وعازف، و”لويح” بالمنديل يرأس صفّ الدبكة، لذا سرعان ما تتشابك الأيدي حال سماع نغمات الدلعونة، لتنتظم حلقة الدبكة تدّك الأرض دكاً.
أنّى كان مصدرك يا دلعونة، لابد أنك شغفت القلوب ولوّعتها حتى طافت شهرتك منذ آلاف السنين حتى لحظة كتابة هذه السطور.
إعداد: تمام علي بركات