عنــب دومـــانــي (6)
د. نضال الصالح
لم يعد في معجم مهيار سوى كلمة واحدة ترتلها روحه، هي مأمون، وروحه نفسها تصخب بغير صورة لشقيقه وهو بين أنياب تلك الضباع التي انشقّت أرض دوما عنها كما ينزّ قيح من جثّة آيلة للتفسّخ، جثّة تلوّث الفضاء حولها بما لا تقوى رئتان على احتمال الرائحة التي كانت تنبعث من بعض جسدها، لا جسدها كلّه، والتي لم يعد ممكناً الخلاص منها بغير تلك المفردة التي كان الناس يرددونها في مجالسهم، وأمام الشاشات، هي الحسم، ولاسيما بعد أن تكاثرت قذائف الموت التي كانت الضباع ترسلها إلى غير مكان في دمشق.
في الصباح، بل قبل أن يجهر الضوء بنفسه كان مهيار يتوكأ جسده الناحل، ويمضي مشياً على قدميه من المزة ستة وثمانين إلى ساحة الأمويين، ثمّ يغدو جيئة وذهاباً أمام مكتبة الأسد في انتظار ميسون التي كانت واعدته على اللقاء فيها قائلة له بصوت يسمعه: “لنستكمل مراجع البحث عن الغوطة”، وبصوت لا يسمعه: “اشتقت إليك يا حبيبي”، وكان مهيار يقول بصوت تسمعه: “اتفقنا، تأخرنا كثيراً في تسليم البحث”، وبصوت لا تسمعه: “اشتقت إليك يا حبّة العنب”. وبين الجهر باستكمال مراجع البحث وصمت الاشتياق كانت دمشق تستقبل نهاراً مختلفاً عمّا سبقه من نهارات فيما يخصّ عدد القذائف التي كانت تمطرها من غير مكان من الغوطة، ولكنها، على الرغم من ذلك، تتابع صباحاتها كما اعتادت، إيماناً بالحياة، ويقيناً بأنّ آجال الضباع قاب صبحين أو أدنى مهما يكن من طيشها، وجنونها، وظلمات العقل والقلب التي ترتع فيها.
أمام المكتبة كان ثمّة شجرة كبيرة تتثنى أغصانها غبطة بعصفورين يزقو أحدهما الآخر بالعناق، وكان مهيار يتابع المشهد وهو يردّد لنفسه كأنّه يرتّل: “لو أنّ هذا العالم عصافير فحسب، لا طيور جارحة، ولا ضباع، ولا ذئاب، ولا أمريكا، ولا..”، وبينما هو يتبتل إلى السماء لتعيد خلق الكون من جديد، أو ليكون نوح من جديد، فيرجو لو أنّ الله أتبع قوله: “احملْ فيها من كلّ زوج اثنين”، بآخر: “سوى الطيور الجارحة، سوى الضباع، الذئاب..”، ثمّ ما يكاد يستعيد قوله تعالى: “إلا مَن سبق عليه القول”، حتى يجد نفسه وهو يرتّل: “ومَن آمن وما آمن معه إلا قليل”. وبينما هو مسحور بمشهد العصفورين أمامه، تمنى لو أنّ أحدهما كان هو، والآخر ميسون، ولو أنّ شجرة مثل هذه الشجرة تظللهما، بل تطويهما بين أغصانها الفارعة وأوراقها الكثيفة، فلا يراهما أحد، ولا يسمع نداء روحيهما إلى مزيد من العناق سوى ملائك الغبطة بالحياة.
تابعت قذائف الضباع انهمارها المحموم فوق غير مكان وساحة في دمشق، ومهيار ذاهل عمّا حوله وهو يتابع المشهد أمامه، ثمّ لم يكد العصفوران يرفرفان بأجنحتهما بعيداً عن الشجرة، وقبل أن يستدير مهيار جهة الصوت الذي دوّى قريباً منه، وأرغم العصفورين على النجاة بنفسيهما، حتى…. (يتبع).