صديقي الأبدي
سلوى عباس
رغم الحشود الغفيرة التي احتشدت لاستقبالهم رأت نفسها وحيدة، تنظر إلى الوجوه الصامتة فترى امتداد مأساتها شريطاً مليئاً بالحزن والتعاسة.. كانت تجلس في كرسي مفرد في الحافلة التي تقلهم إلى معبر السلامة، وفجأة استفاقت على وقع أغنية أوجعت روحها فأخذ هطلها يزداد مع أنها حاولت كثيراً أن تداريها بمنديلها وأن تداري كروب قلبها المضطرب الذي أطفأت الحرب سراجه، لكنها لم تستطع، ففي لحظة من توهج الروح لمست ما تحمل في قلبها من سخونة الرمال واستمالات العشب حيث لامست كلمات الأغنية شغاف قلبها، وأخذتها في مسارب الذكريات الطويلة، فارتبكت الأنحاء حولها، واستفاق في روحها كل الإحساس بالغربة وهباب الوقت الذي انطلق للحظة عكس اتجاهها.
فتحت دفاتر ذكرياتها، وراحت تقلّب صفحاتها، تقرأ فيها تفاصيل أيامها الماضية، عندما كانت مساحة الحياة تتسع للكثير من الأحلام، وقالت في نفسها ربما استحق ما حصل لي، فمنذ وعيت هذه الحياة وأنا أركض وراء الصعاب وأبحث عنها، ويتراكم فشلي شيئاً فشيئاً وأنا لا أعير هذه الحياة اهتماماً، بل أقابل المأساة بابتسامة وأنساها وأبدأ من جديد.. من هي هذه الإنسانة المتمكنة مني.. إنني من لحم ودم، كلمة صغيرة تهز مشاعري وتفتح أمام دمعي طرقاً لا تنضب.. أهرب إلى الذكريات الماضية لكن أين الفرح فيها.. تمثال من الألم صلب يقف أمامي.. بسمة صغيرة تهرب مني أريد أن ألتقطها وقلبي يتفجر حزناً، فأحزاني عواصف ثلجية تقتحم الشتاء.. فجر صامت يسرق صمتي.. نجم ثاقب يناغي نجومي وقمري.. درب طويل أشق عبره جسر الحياة.
تمعّنت في المرآة ملياً تستقرىء خبايا روحها، وتبثّها تداعياتها المربكة، كيف تستعيد الزمن الذي دفعت ثمنه من عمرها وحياتها، كيف لها أن تغيّر ملامح عمر، وفي كل خلية من جسدها ندبة تركتها الحياة، لتكون زوادتها في سني عمرها، هل للمرآة أن تحدثّنا عن حالنا، عن أيامنا، هل يمكن أن تكذب علينا، هل يمكن أن نكون صادقين مع أنفسنا أمامها، فإذا كنا نتحايل على المرايا العاكسة لصورتنا، كيف لنا أن نهرب من مرايا أرواحنا التي من خلالها نتعرّف إلى حالتنا، حين نقف مع أنفسنا نفتّش عن ذواتنا أين أصبنا وأين أخطأنا، تلك المرايا هي مرايا صدقنا مع محيطنا الذي مهما ابتعدنا عنه يبقى يلاحقنا. وأيقنت أنّه كُتب عليها أن الوصول متأخرة، وأنّ الحياة جرفتها في تيارها، فينتابها إحساس بالعجز عن فعل أي شيء بعد هذه المأساة التي عاشت ظلمتها لسنين، هذه التجربة القاسية والحزينة لم تترك للحلم فرصة أن يتصالح مع حياة مزدحمة بالمتاهة والألم.. حياة تضيّق خناقها على كل حلم قد تفكر فيه..
سألت نفسها: كم من الأعوام والبشر قضوا في هذه الحرب التي عشناها جميعاً بقهر واستغلال وحصار، حتى أمها التي كانت كل مصدر قوتها في الحياة غادرت قهراً وكمداً على غيابها.. أمها التي أرقتها أساليب العذاب التي تتعرض لها ابنتها فرحلت مختنقة بحشرجة لهفتها وخوفها عليها.. رحلت بيقين أنها ستلتقي بها في السماء.. ربما رحيل والدتها كمداً عليها يوازي بالنسبة لها كل ما عاشته من ظلم وقسوة، فما كان يمدها بالقوة أنها ستخرج يوماً لتستسمحها وتستغفرها عن كل القهر الذي تسببت لها به.. لكن الزمن لم يمهلها، ليبقى الحزن سواد قلبها ورفيقها الأبدي.