إعادة إعمار الشجر لا يقل أهمية عن إعادة إعمار الحجر
شهدت الحراجية للأشجار الطبيعية الموجودة منذ قرون في جميع المحافظات السورية خلال السنوات الأخيرة تعديات كبيرة، خاصة في المناطق التي طالتها يد الإرهاب، بالتوازي مع الحرائق الكثيرة، عدا عن القضم الذي تعرضت له الأراضي الحراجية، بسبب اعتداءات البعض عليها وتحويلها إلى أراضٍ زراعية، وبسبب الطرق التي تم شقها والتشييدات والأبنية التي تمت في كثير منها؛ ما أضعف من مساحتها، وخفَّض كثيراً من أعداد أشجارها، والمؤسف أن بعض الأنواع انخفضت أعدادها كثيراً، ويكاد يوشك على الانقراض، وتحديداً الأكثر فائدة منها، كالخرنوب والسنديان والبلوط، وفي هذه الأشجار المعمر جداً، وهو رهن الهلاك المحلي المتتالي عاماً بعد عام، دون وجود نمو لأشجار جديدة.
ومن المجمع عليه أن نسبة كبيرة من هذه الأشجار مفيدة جداً ولازمة جمالياً وبيئياً واقتصادياً، وخاصة ما هو منها مصدر لغذاء المواشي بأنواعها ولاسيما الماعز الجبلي الذي كان يعتبر مصدر دخل لكثير من الأسر في كثير من المناطق، كما كانت مخلفات تقليمها والهالك منها مصدراً أساسياً للتدفئة في الريف، وخشب بعضها مصدراً لصنع الأثاث والمنجور، ومصدراً لإشادة أعمدة وسقوف الأبنية الريفية الشعبية.
وبعض الأشجار الحراجية تنتج ثمراً يشكل غذاء للإنسان، كالكستنا والزعرور والخرنوب والريحان والشزريق، وثمرة شجرة الخرنوب حلوة الطعم وقابلة للحفظ أكثر من عام من دون براد، ويصنع منها دبس غذائي وطبي، كما أن خشب أشجار السنديان والبلوط الصلب والمقاوم يستخدم في صناعة القوارب البحرية، وبعض ثمر هاتين الشجرتين يؤكل مشوياً كالكستنا، وتحميصه وطحنه يعطي شراباً لذيذ الطعم كالقهوة.
الانخفاض الأكبر الذي تعرضت له الأشجار الحراجية نجم عن الاحتطاب الجائر نتيجة الاتجاه للتدفئة على الحطب بدل المحروقات التي قل توفرها وارتفعت أسعارها، وانتشار تجارة الحطب في السنوات الأخيرة زاد الطين بلة، ما تسبب في القضاء على نسبة كبيرة من الأشجار الحراجية وخاصة المعمرة منها، والخطر الأكبر نجم عن تحويلها إلى فحم، إذ أصبح سعر كيلو الفحم بمئات الليرات، بدلا من آحادها قبل سنوات قليلة مضت، والشجيرات الصغيرة الموجودة في بعض المواقع الحراجية الكثيفة تبقى صغيرة بسبب تعرضها للحرائق وللاحتطاب المتكرر والجائر، ولغاية استخدام عيدانها الرفيعة لفحم الأركيلة الأغلى سعراً، والذي يعتمد على الحطب الرفيع، ما دفع العاملين بهذه المهنة لاجتثاث الغراس الصغيرة النابتة مجدداً لهذه الغاية، ما حدَّ كثيراً من نمو أشجار كبيرة جديدة، كما أن كثيراً من المزارعين لا يسمحون بنمو جديد لهذه الأشجار في حقولهم الزراعية، كل ذلك أضعف كثيراً من مساحات وأعداد هذه الأشجار الحراجية المعهودة.
من المؤكد أن الإرهاب طال الأشجار المثمرة أيضاً، ولكن عدداً من المزارعين كانوا غيورين جداً على أشجارهم، وسيسارعون ذاتياً لإنمائها، وسيجدون العون المعهود لهم من المشاتل الحكومية العامة، المتوجب أن تمدهم بالغراس الأفضل من جميع الأنواع، وبأسعار رمزية، والذي عليهم الحفاظ على أنواع متعددة من الأشجار الحراجية المعهودة في مناطقهم، لفائدتهم الكبيرة منها، حطباً وخشباً وثمراً.
وتبقى تنمية الأشجار الحراجية مسؤولية الجهات المعنية، وخاصة وزارة الزراعة التي سبق أن أولتها اهتمامها، والتي عليها أن تقوم بهذا الدور مجدداً، فآمال النمو الذاتي المتجدد للمناطق الحراجية المحتطبة أو المحروقة لا يكفي، لأنه سيستغرق سنوات شتى، إذ ستتعرض لاحتطاب جائر وحرق لمرات تالية وهي في صغرها، ما يستدعي ممارسة رقابة صارمة لحماية الحراج الصغيرة النامية ذاتياً، والمسارعة لإنتاج غراس حراجية جديدة، عبر المشاتل العامة العاملة والمجددة والمحدثة، ونقلها إلى المناطق الحراجية القديمة والجديدة، والاعتناء الكبير بها، مع الأخذ بعين الاعتبار التركيز على إنتاج الغراس الحراجية المعمرة والمعهودة في مناطقنا، وذات المردود الاقتصادي خشباً أو وثمراً، كالسنديان والبلوط والخرنوب والكستنا، وإحداث غابات جديدة منها، وزراعتها في الحدائق العامة، وبمحاذاة الطرقات الرئيسية، وفي مناطق التخفيف من شدة الرياح، وأن تتابع الجهات المعنية العناية الإنباتية والرقابة الحمائية لهذه الأشجار، والاستثمار الاقتصادي المدروس لها حال وصلت إلى مرحلة الاستثمار، فالتحريج الاقتصادي هو الأجدى، لأنه يغطي الجانبين البيئي والجمالي معاً، وإعادة إعمار الشجر لا تقل أهمية عن إعادة إعمار الحجر.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية