اقتصادصحيفة البعث

دورة رأس المال “الركيكة” تكبل حاضنة الأمن الغذائي السوري رؤية لإنعاش القطاع الزراعي بأدوات صناعية فاعلة

يعود الحديث مجدداً عن ضرورة إحداث شركات تسويقية للمنتجات الزراعية من بوابة البحث العلمي، إذ لفت انتباهنا ما ورد في تقرير السياسة الوطنية للعلوم والتقانة والابتكار التي أعدتها الهيئة العليا للبحث العلمي، الإشارة إلى “ضعف الحلقات التسويقية المختلفة وعدم دخول القطاع الخاص في إقامة مؤسسات وشركات تسويقية رائدة”، وذلك ضمن سياق تناولها لنقاط ضعف القطاع الزراعي. ولعل مرد هذا الأمر يعود لما يتملكه القطاع الخاص من مخاوف تجاه الاستثمار في المشاريع الاستثمارية لاعتبارات تتعلق بطول فترة استرداد رأس المال أولاً، وما يحيط بهذا القطاع من مخاطر مرتبطة بالتغييرات المناخية في ظل غياب التأمين الزراعي ثانياً، علماً أن تنمية القطاع الزراعي تتبوأ أهمية كبيرة في أولويات الحكومة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية، بالتوازي مع وجود بعض أشكال التعاون والتنسيق مع الجهات والمنظمات العربية والإقليمية والدولية ذات الصلة بهذا القطاع.

رأي الخبراء
ففي الوقت الذي يعتبر الدكتور زكوان قريط أنه من الصعوبة مأسسة القطاع الزراعي لكونه بالدرجة الأولى عملاً فردياً، يرى زميله الدكتور علي الحسن أن الحل الأمثل لدعم هذا القطاع يكون عبر إحداث شركات استثمارية من بوابة الشركاء الدوليين مثل “الصين – روسيا”، من خلال الاستفادة من خبراتهم لتطوير بنيتنا الزراعية وتوطين ما لديهم من تكنولوجيا وتجهيزات ومستلزمات زراعية.

وللوزارة رأيها
في حين ترى وزارة الزراعة التي لم تستطع مصادرها إعطاء رقم محدد حول عدد العاملين في القطاع الزراعي، أن الحل الأمثل لتوجيه رأس المال نحو هذا القطاع يكمن بأن يقوم المستثمر العمل في المجال الزراعي بشكل متكامل، بمعنى أن يزرع ويصنع في الوقت ذاته، لأن إدخال الشق الصناعي في القطاع الزراعي – برأي مصادرها – يقلل من فترة دوران رأس المال، وعلى اعتبار أن الآلات والتجهيزات معفاة من الجمارك سيكون دخله أكبر، وتزيد نسبة الحاجة لليد العاملة. ورغم إقرار مصادر الوزارة بأن هذا القطاع هو الأكثر استيعاباً للأيدي العاملة من القطاعات الأخرى الخدمية والصناعية، إلا أن نسبة كبيرة من العمالة بدأت تهجر الزراعة خلال الفترة الأخيرة للعمل في المدن بسبب تناقص أرباح الإنتاج الزراعي وإيراداته نتيجة الظروف المناخية، وخروج مساحات من الخدمة نتيجة الأزمة.
ولم تخفِ مصادر الوزارة أن الاستثمار في القطاع الزراعي صعب جداً خاصة في الإنتاج النباتي؛ لأنه استثمار فردي بالدرجة الأولى، وأكثر سهولة ويسر في الإنتاج الحيواني (المواشي والدواجن) لكونه لا يحتاج إلى مساحات واسعة من الأراضي، ولا يحتاج إلى أيدٍ عاملة كثيرة مثل الإنتاج النباتي.

للحد من الهجرة
وفي ذات السياق يرى قريط أنه بالنسبة لمن يمتلك أرضاً لا يمكن أن يؤسس شركة زراعية ذات هيكل تنظيمي وإداري بالمعنى المعروف، وبالتالي لابد من دعم هؤلاء وتشجيعهم حتى لا يهجروا أراضيهم، عبر تخفيض أسعار حوامل الطاقة، وتقديم البذور والأسمدة والمبيدات بأسعار منافسة، إلى جانب تقديم الاستشارات الزراعية اللازمة، مع ضرورة تطوير البنية التحتية في كل المناطق والقرى الريفية، مبيناً أن من شأن ذلك تفعيل القطاع الزراعي، وترسيخ الفلاحين بأرضهم، وبالتالي استقطاب العمالة المطلوبة وتشغيلها، إضافة إلى الحد من الهجرة من الريف إلى المدينة إن لم نقل إيقافها.
العمود الفقري
إن تركز الاستثمار الزراعي ضمن خانة القطاع الخاص لدرجة أن منظومة البحث العلمي اعتبرت أن هذا الاستثمار يشكل العمود الفقري للقطاع الزراعي حيث تبلغ نسبته 98.5% من إجمالي الإنتاج، مقابل 1% للقطاع المشترك و0.5% للقطاع العام، ولنا أن تصور إمكانية العائد الاقتصادي لهذا الاستثمار فيما لو تم العمل على مأسسته بالشكل المطلوب، ولاسيما أن بعض الدول الصديقة ومن بينها الصين تبحث عن موارد زراعية، ما يعتبره البعض فرصة علينا اغتنامها لتحقيق شراكة تكاملية بعيدة عن الغبن، فالصين على الرغم من مساحتها الشاسعة تسعى للبحث عن أراضٍ جديدة للاستثمار الزراعي، لكونها تمتلك كتلة بشرية هائلة مستهلكة، وبنفس الوقت لديها الإمكانات الكبيرة لتصنيع الآلات الزراعية، إلى جانب مقدرتها على تحسين الأصناف الزراعية، وكان لها تجربة سابقة باستثمار أراضٍ زراعية في أنغولا لزيادة إنتاجها الزراعي، إذ يمكن الاستفادة من هذه التجربة ولكن بشروط سورية سيادية، وعبر اتفاقيات وبروتوكولات تعاون تحفظ حقوق الطرفين، بحيث نستقطب الصينيين للاستثمار الزراعي في سورية، ليس بهدف تحسين مستوى الإنتاج لدينا فحسب، بل لفتح سوق جديدة لتصريف ما تنتجه أراضينا من جهة، وإيجاد فرص عمل من جهة ثانية، وتوطين تكنولوجيا زراعية من جهة ثالثة، والأهم من ذلك هو فتح شراكة زراعية استراتيجية مع دولة كبرى تسعى لأن تكون أحد أقطاب العالم.

تذليل التحديات
كما أن من شأن قيام مثل هذه الشراكات تذليل ما يعترض قطاعنا الزراعي من تحديات أوردها تقرير السياسة آنف الذكر، كتحويل استعمال بعض الأراضي إلى استعمالات بديلة، وتعرض بعض أجزاء الأراضي لتدهور الخصوبة والتملح والتلوث نتيجة الظروف المناخية الطبيعية من جفاف وقلة الهطولات المطرية، إضافة إلى العامل البشري غير المدرب وعمليات التكثيف الزراعي، وعدم الالتزام بالدورات الزراعية المناسبة، وبالتالي انخفاض الإنتاجية، مما يتطلب إعادة استصلاح هذه الأراضي وتأهيلها ومعالجة مشكلة تفتت الحيازات الزراعية لكونها تعوق الاستثمار والمكننة، واتخاذ خطوات جادة للحد من هذه الظاهرة.

خلاصة
ومع تحقيق مستوى جيد من الأمن الغذائي بوجود كميات متاحة من محاصيل القمح والبقوليات الغذائية الحمص والعدس، إلى جانب الخضروات المختلفة وخاصة البطاطا والبندورة، ومختلف أنواع الفاكهة، وذلك بشهادة التقرير، فإن سورية ما تزال تعاني من نقص في بعض المنتجات الغذائية؛ ولذلك تستورد بعض السلع الرئيسة الأخرى، مثل السكر وبعض الزيوت السائلة، إضافة إلى استيراد كميات كبيرة من الأعلاف كالشعير والذرة الصفراء وخاصة في السنين العجاف، ما حدا المنظومة الوطنية للبحث العلمي إلى استخلاص جملة من المقترحات العامة لتطوير قطاع الزراعة، أبرزها تشجيع البحوث في مجال البيئة الزراعية والصناعات الزراعية الغذائية، وزيادة الإنتاجية الرأسية لكافة المحاصيل الزراعية باستخدام حزمة متكاملة من المدخلات، إضافة إلى تطوير منظومة عمل الإرشاد الزراعي، وتعزيز التنسيق مع البحوث والتعليم وتأهيل المرشدين لتمكينهم من تنفيذ البرامج الإرشادية المتخصصة ونقلها إلى المنتجين. مع التركيز على الخدمات المساندة للإنتاج، والقيام بالبحوث الزراعية اللازمة لإنتاج الأصول النباتية والعروق الحيوانية الجيدة والبدائل المطلوبة وتوزيعها على الفلاحين.
ح. النابلسي
hasanla@yahoo.com