عنب دوماني (7)
د. نضال الصالح
قبل أن يستدير مهيار جهة الصوت الذي دوّى قريباً منه، وأرغم العصفورين على النجاة بنفسيهما، أحسّ بسائل ساخن يتدفّق من بين أصابعه، شديد الحمرة، وميسون تتهالك متساقطة على الأرض وهي تشير بيدها إلى الموضع الذي كان الدم ينهمر منه، إلى رأسها الذي اخترقته شظية من القذيفة التي سقطت قريباً منهما بينما كانا ذاهلين في مشهد العصفورين بين أغصان الشجرة.
صوت سيارة الإسعاف التي هُرعت إلى المكان يتداخل بصوت ميسون التي كانت ترجو مهيار أن يبتعد عن الساحة، أو يدخل إلى المكتبة، فيؤمن على نفسه من مزيد من القذائف القادمة من الغوطة، ثمّ بصوته وهو يرجوها أن تهدأ ريثما تصل سيّارة الإسعاف، وبين الأصوات الثلاثة تتردّد أصوات آخرين مصحوبة بحسبلة وحوقلة وغير دعاء على الضباع التي ترسل القذائف خبط عشواء. وبينما مهيار يحمل ميسون جهة سيارة الإسعاف التي كانت هرعت إلى المكان دوّى ارتطام قذيفة جديدة بالأرض وانفجارها ثمّ ما تناثر من شظايا منها، فسقط غير رجل وامرأة وطفل مضرجاً بالدماء، ولم يكد مهيار يبلغ سيارة الإسعاف، حتى ازدحم على بابها المسعفون والمصابون، وحتى وجد نفسه يصرخ بأعلى صوته: “أرجوكم حبّة العنب”، وحتى تبعثر الجمع بين مصاب مشغول بدمه النازف وآلامه المباغتة والمبرحة ومسعف لا يعرف كيف ستتسع سيارة الإسعاف لأولئك جميعاً وما عدّه الجمع نفسه علامة أولى على ضياع عقل الشاب الذي يشبه، لبياض بشرته الباذخ والزرقة الباهرة في كوكبي عينيه، الشاعر الذائع الصيت وضّاح اليمن الذي قيل إنّه سُمّي كذلك لأنه كان على جانب كبير من الجمال، كما قيل إنه لم يكن يدخل أياً من الأسواق إلا مقنّعاً خشية من العين.
في المشفى كان مهيار يمسك بيد ميسون بينما كان الطبيب يضمد الجرح النازف من خاصرتها، وبيده الأخرى يمسح على جبينها، وبينما هي بين الصحو والخدر تردّد: “أغباني يا مهيار”، وكانت تقصد القماش الذي تشتهر بصناعته نساء مدينته دوما، ثم تسأل عن شقيقه مأمون الذي اختطفه المسلحون، ثمّ تغيب بعض الوقت عن العالم حولها، وما إن تصحو، حتى تستعيد لازمتها: “أغباني يا مهيار”، فيقسم مهيار لها: “أنت تأمرين يا حبّة العنب”، وعندما ينتبه الطبيب الجرّاح إلى الاسم الذي كان مهيار يردده بين وقت وآخر، يمضي بعينيه، جيئة وذهاباً، بين الوجهين أمامه، وجه ميسون ووجه مهيار، ثم تضيء شفتاه بابتسامة رهيفة، وما إن يسأل: “عروسان؟”، حتى تزداد الحمرة الصاخبة في وجه ميسون لهيباً على الرغم من الصفرة التي كانت غزته بسبب ما فقدت من دماء، ويضج البياض الباذخ في وجه مهيار بلون الجوريّ على الرغم أيضاً من الصفرة التي كانت غزته بسبب خوفه على ميسون، بينما في عيني كل منهما يتدافع بريق شوق وصبابة إلى تلك الليلة، بل إلى ما قبلها، إلى اليوم الذي سيمسك أحدهما بيد الآخر، ويردد وراء الشيخ سردية الإيجاب والقبول، ثمّ ما يكاد مهيار يمسك بالشوق والصبابة في عيني ميسون، حتى…. (يتبع).