الكتابة على الجدران وتشويه الوجه الجميل للمدن وغياب طابع الخصوصية عنها
“الحيطان دفاتر المجانين”، بهذه الجملة استهلّ أبو فراس حديثه، وهو صاحب إحدى البقاليات المحاذية لثانوية للشباب، مُستنكراً انتشار هذه الظاهرة بشكلٍ كبير والتي يعتبرها، إضافةً إلى إساءتها وتشويهها للمنظر العام، انعكاساً للتربية التي يتلقاها الفتية الصغار في منازلهم، مُحمِّلاً أهلهم مسؤولية عدم تربيتهم “شوفي على هل عبارات المكتوبة شيء مُخجل” يستطرد كلامه، بعضها جمل تخدش الحياء، خاصةً وأنّ الأولاد يومياً يشاهدون هذه العبارات والجمل التي ربما ستؤثر سلبياً على وعيهم وفهمهم، وجُملٌ تعبّر عن حب وإعجاب أحدهم بالجنس الآخر، إضافةً إلى عباراتٍ وإشارات يعتقد من كتبها أنّه بمثل هكذا أسلوب يُعبّر عن محبته للوطن.
ظاهرة مُسيئة
إنّ ظاهرة الكتابة على الجدران التي تنتشر في الأحياء الشعبية، وبعض المرافق العامة هي ظاهرة لا تمت للحضارة بِصلة، وتُعتبر تشويهاً للمنظر العام للمدينة أو الحيّ، وانتشارها بنسبةٍ كبيرة بين الشباب، خاصةً ذوي الفئة العمرية الصغيرة، تعكس اللامبالاة وفقدان الإحساس بالمسؤولية من قبل هذه الفئة، فثقافة المحافظة على المرافق العامة، واحترام خصوصيات الغير، تكاد تكون معدومة لديهم، لا بل منهم من يعتبر هذه السلوكيات تنفيساً عمّا يدور بداخلهم من مشاعر وتمردٍ ورفض للواقع الاجتماعي الذي يرفض هذه الممارسات، وفي الحقيقة لم يقتصر الأمر في تشويه المرافق العامة على ظاهرة الكتابة على الجدران فقط، بل تجاوزه إلى وضع الملصقات الإعلانية، وبشكلٍ كبير لدرجة أنّنا بتنا نرى هذه الملصقات حتى في الحمامات العامة، سواء الموجودة في الشوارع أو الجامعات أو حتى الجوامع.
أبو مازن من سكان منطقة المزرعة، يتحدث غاضباً عن معاناةٍ شبه يومية مع من يقومون بوضع هذه الملصقات على سور حديقة منزله، قائلاً: مثل هذه التصرفات المشينة تحرمك من خصوصيتك، وتضفي منظراً غير لائق على ممتلكاتك الخاصة، بغض النظر عن طبيعة هذه الممتلكات، واصفاً هذه التصرفات بالاستفزازية والمتخلفة.
البعد الأخلاقي والنفسي
بعيداً عن الاستغراق في الوصف والتصنيف، وخاصةً إذا دلفنا إلى الموضوع بشكلٍ مباشر، ووضعناه في سياقه الطبيعي، من خلال البحث في الدوافع والأسباب، ستتضح لنا مجموعة عوامل وراء تلك الظواهر، فالعوامل النفسية والانفعالية هي الدافع الرئيسي إلى مثل هذا النوع من التعبير، بينما يعتبرها البعض تعرية للذات، وتعبيراً صادقاً عنها، بعيداً عن قيود المجتمع وضوابطهِ، فمن يمارس هذه الأفعال يُفرِّغُ ما بداخلهِ من شحنات مكبوتة، خاصةً إذا ما تحدثنا بالتحديد عن المراهقين، حيث يرفضُ الكثير منهم اعتبارها تقصيراً في التربية والأخلاق، ويعتبرون أنّ هذا الوصف تضخيم للموضوع، وتحميله أبعاداً أكثر من اللازم، فهو وحسب وجهة نظر الشباب لا يتعدى كونهُ تعبيراً وتنفيساً عن وضع، وحالة نفسية معينة، أو كما يحلو للبعض وصفه “فشة خلق”.
مرام أحمد، طالبة في الصف العاشر الثانوي، تعتبر أن الكتابة على الجدران غايتها في أغلب الأحيان لفت نظر من حولك، أو التنفيس عن شحنة غضب، أو الاعتراف بالحب لأحدهم، مضيفة بأنها ممن يقومون بالكتابة على جدران مدرستها، وعند ممارسة هذا الأمر لا يعتريها أي شعور بالذنب، بل على العكس تشعر بالسعادة، أو بتعبير آخر ربما تشعر بالقوة لأنها تستطيع أن تعبّر عما تشعر به من دون وجود رقابة، سواء من الأهل، أو إدارة المدرسة، فهي تعتبره نوعاً من الشغب المحبب، أو رغبة بالانتقام من إحداهن، قائلة: معظم صديقاتي يقمن بذلك: “ما في على الحكي جمرك”، مختتمة كلامها بابتسامة.
ربما من الدوافع الأكثر قوة التي تفضي للقيام بمثل هذه الأفعال غير المسؤولة، إيصال رسالة ما لأحدهم، سواء كانت عاطفية، أو اجتماعية، أو مجرد كلام لا معنى له، أو التعبير عن حالة غضب تجاه أحدهم، ومعظم المراهقين الذين يقومون بهذه الأفعال يمتلكون الرغبة في أن يشاركهم الآخرون ويتفاعلوا معهم، خاصة عندما يمنعون من البوح الاجتماعي لمشاعر تتعلق بالحب على سبيل المثال، لذلك يفكر الشخص في طرق بديلة لإيصال رسائله تلبية لما يشعر به من دون التفكير بصوابية طرقه التي يستخدمها، حيث يصبح الأمر هنا عبارة عن تعبير غير مباشر دون الدخول في مواجهة علنية مع الجهة التي توجه إليها الرسالة، وعادة ما يلجأ إلى مثل هذه الأفعال الأشخاص الذين لا يمتلكون القدرة على التعبير اللفظي فيلجؤون إلى الكتابة على الجدران، وهذا ما يفسر انتشارها بين فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 12-22 سنة.
سلوك غير حضاري
بالضرورة ممارسة هذه السلوكيات تعكس قلة الوعي بأهمية الممتلكات العامة، وضرورة المحافظة عليها، لدرجة أن اللامبالاة وعدم معرفة النتائج السلبية المترتبة عن ممارسة هذه الظواهر لم تعد تقتصر فقط على تشويه المنظر العام للمدينة، ما يفقدها هويتها وبصمتها الخاصة التي تميزها عن غيرها من المدن، بل تعداه إلى تخريب الآثار التي تعتبر ثروة إنسانية ووطنية وسياحية، فالكثير يعبّر عن سعادته بزيارة موقع أثري ما إما بتخليد قصة حبه عن طريق كتابة الاسم، أو حتى حفره في أحيان كثيرة على الأبنية والأعمدة الأثرية، ما يعكس الجهل للقيمة الإنسانية لهذه الكنوز، وما يدعو للسخرية أن من يقومون بمثل هذه السلوكيات غالباً ما يكونون من الفئة العمرية التي يفترض بها أن تكون مثالاً وقدوة لصغار السن، ما يثبت غياب ثقافة احترام وصون الممتلكات العامة، لذلك يتوجب فرض عقوبات وغرامات مالية بحق مرتكبيها.
بناء الثقة
ربما ما نحتاجه اليوم، وخاصة في المدارس، هو التشجيع على إعداد المجلات الحائطية، وإدخال فقرات للإذاعة المدرسية لتنمية المهارات والقدرات الإبداعية على التعبير، وإرسال رسائل خفية للطلاب تطمئنهم وتشعرهم بالأمان، وتكون رافداً وداعماً للأسرة، ولتنمية الحس الوطني، والشعور بالمسؤولية، وبناء الثقة بينهم وبين إدارتهم للتعبير عما يجول في خواطرهم، وإشراك الطلاب الصغار منهم والكبار في فعاليات خاصة بتزيين جدران مدارسهم، والمرافق العامة لإدخال السعادة والفرح إلى قلوبهم، وإفراغ مكنوناتهم بالطريقة السليمة بعيداً عن العشوائية، ما يضفي طابعاً من السحر والجمال على المدينة، ويمكّن الشباب من إيصال رسائلهم وأفكارهم بأسلوب مختلف ومميز بعيداً عن الاستفزاز والتحدي.
لينا عدره