لم نمت .. لا نعيش!؟
د. نهلة عيسى
بلا معنى, وأعرف أني أخطئ من وجهة نظر اللغة, إذ بدأت الكلام بغير اسم أو فعل, أستيقظ كل صباح, وأنا أحس بما يشبه دوار البحر, غثيان وقيء وقلة حيلة, جراء متابعتي لمجريات الأحداث “المحملة بالإيحاءات والخيبات” في وطني, إضافة لعجزي عن التسرب من الشقوق الضيقة لجدران غرف الاجتماعات في البيوتات الدولية, لأراقب عن كثب صراع الحيتان والقروش على الطعم الفخ (سورية), في بحر من الألغام وأعشاب البحر والشِبَاك الممزقة!؟.
استيقظ, واستيقاظي وجعي, لأنه يعيدني قسراً للتجول داخل الجرح, وللخوض في دوائر أسئلة مراوغة, إجاباتها تبدو سهلة, ولكن النجاح فيها عسير, لأتذكر أية مأساة هو الصحو في وطن صار شعبه حديث سفلة العالم, وخبراً أول في نشرات أخبار, ترتزق من خرابنا, وتتغذى على بؤسنا اليومي, وتثمل ابتهاجاً, ونحن نبدو على شاشاتها مجرد دمى بلاستيكية بلا ملامح, ولا مشاعر, ولا إرادة, وبلا قدرة على العيش أو الموت!؟.
استيقظ, وأتجنب عقلي طوال اليوم, وأفرض عليه اللجوء الإنساني إلى النسيان, هرباً من هرولتي الدائمة في المسافة بين مرمى قنص الذاكرة, وبين الذهول المر مما نعيش ونرى ونسمع, لكن كل ما أفعله في يومي مهما كان تافهاً, يقودني إلى وجع الوطن, ويرميني على عتبة اليوم الأول لخرابنا غير المحسوب, ويبدأ بركلي مثل كرة قدم ممزقة, من شهر إلى آخر على مدار أكثر من سبعة أعوام, لأسقط في نهاية اجترار الجرح في خيام العزاء, أنادي فيها على أحبائي المقتولين والأموات الأحياء, وأتلمس كالعمياء, بيدي ملامحهم شبه المنسية, وأغسل بدموعي بقايا دمائهم, ووهمي الصباحي بأنني قادرة على العيش برأس مثل السبورة الممحية!؟.
استيقظ, ولا سبيل أمامي للنسيان, ولا مفر, فأول البحر يدل على آخره, والفنارات معطوبة, وزبد البحر ملح وتيه, وأمهاتنا غادرن الانتظار على شواطئ الحنين, وسكن سواد أثوابهن, وعتمات الهوامش, حيث موت آخرين سلوى عن موت فلذاتهن, وعن بؤس لا يشفيه صبر, ولايجمله اليقين, بأن الرب يمهل ولا يهمل, وأنه من خلف الجبال العالية تشرق الشمس كل نهار!؟.
استيقظ, وذاكرتي كفن لمن رحلوا, وقلبي تابوت, لأن الوقوف منذ أكثر من سبع سنوات في مقبرتنا المفتوحة على اتساع الكون, أدخلني في الظن أني أتوهم الحياة, وأن بقائي حية حتى الآن, مجرد إجازة عابرة بين موت سابق, وموت آت, والمأساة أن الراحلين أحبة, والباقين أعداء, والطريق إلى الفجر, ليلٌ طويل, والدليل إليه: قناص, أو جلاد، أو قاطع رؤوس، وفي أحسن الأحوال: ممول أو داعم أو متورط حتى أخمص أذنيه, أو يا رعاكم الله.. شقيق!.
استيقظ, ولا مفر أمامي سوى العيش, عازمة على ملاحقة أي نقطة ضوء راكضة وسط اليأس, ولكن ..ولأن الرداءة باتت أسلوب حياة, والقبح صار أبناً شرعياً لحياتنا, التي باتت في غرف العناية المشددة, موصولة بأسلاك هلام لا لون له, يسميه أصحاب الأصوات الزاعقة على الشاشات “بالصبر”, والحقيقة أن لا شيء في حياتنا يوحي بالحياة, سوى جثثنا الممزقة بالرصاص وأطرافنا المقطعة في الانفجارات, وكتاباتنا الرثة على مواقع التواصل الاجتماعي, تغتال الجميل فينا, بينما ذاكرتنا مثل المومس المتقاعدة تتسكع على أرصفة الماضي, وتلهث خلف محطات أيام كنا وكانوا؟!
استيقظ يا سيداتي وسادتي, فيصمت مصفح, متكاسل, رخو, يشبه التفتت والتلاشي, لايعكر بؤسه سوى ذاك الشخير التاريخي, القادم من زواريب الادعاء بأن الصبح قادم لا محالة, فأغطي الرأس بالغطاء, وأتمنى في السر, لو كنت رفيقة أهل الكهف وكلبهم المسترخي, ولسان حالي يقول: أحرقتنا النار ورَمَدتنا, فلماذا لم نكتشف النور!؟ ولماذا نتعرى حتى صفر الصفر, ونغازل البشاعة والوقاحة والعدم, ونعارك بكرامات مهشمة, ونزيف دمائنا يملأ الأرض, بعضنا بعضاً, على التافه والعابر وابن السبيل, ليفلسف الخواء أسباب عيشنا, وليشرعن العبث دواعي قتلنا, لعالم لم ير في موتنا سوى فرصة لارتفاع الأسهم في البورصة, فهل حقاً نحن نعيش, ولسوء حظنا, الموت غالٍ!؟.