ما يطعم خبزاً..!
ليس غريباً على الأسرة السورية أن يكون الاستنفار حاضراً بقوة في مواسم امتحانات المراحل والصفوف المدرسية الانتقالية، فكيف الحال بشهادات التعليم الأساسي والثانوي التي يحضّر لها.. فهنا للخصوصية المصيرية عند الطالب غيمة رمادية تخيّم على الحياة العامة في المنزل لتغدو العائلة مهمومة وضجرة وخائفة على مستقبل الأبناء الذين يعيش ذووهم قلقاً مشروعاً يدفع بالوالدين للوصول إلى مرحلة “تقمص” شخصية الطالب الممتحن، ليس نفسياً فحسب، بل تأخذ “معركة” الفحوصات مشاركة مباشرة وتحضيراً اندماجياً بين الطالب وذويه في كل التفاصيل والأوقات وأساليب وطرائق الفهم والدراسة والحفظ المرتبط بأولوية الحدث وتداعياته وانعكاساته وظلاله على الحالة الاجتماعية والوظيفية والمهنية للأسرة والمجتمع.
تؤمن التركيبة المعرفية والثقافية للمجتمع السوري بالعلم والمعرفة، وأهمية التحصيل وبلوغ الشهادات التي تعطي قيمة مضافة لأوساط وشرائح وطبقات اجتماعية ورثت قناعة ثابتة لا ريب فيها أن التعليم هو الرصيد والحصن الأقوى في مواجهة أعاصير الحياة و”غدرات الزمن”، وهذا ما اشتغلت عليه أمهاتنا “الأميات” اللواتي نلن شهادات كبرى في الحياة التجريبية جعلت منهن قوة تحريض معنوية ومادية للدراسة والتعليم وكسب أعلى الشهادات لطلاب خرجوا من أرحام القرى والأرياف وحواري المدن بكفاءات وعقول فذة، لتصنع تاريخاً علمياً ومهنياً مردّه الحقيقي أمٌ لا تجيد “فك الحرف” بقيت وراء أبنائها تحارب الفقر وتطوّع الجوع؛ لأنها تؤمن أن العلم هو السبيل الوحيد لإخراج أبنائها من لعنة قلّة الحيلة، وأخرى كافحت وعملت كي ترى أبناءها أصحاب شهادات عليا ولو كانت التهمة الجاهزة “شوكة خلفت وردة” التي تحولت إلى مفخرة في أدبيات أوساطنا الاجتماعية.. في وقت لا يتوانى نموذج آخر عن الاعتراف أو الاكتشاف متأخراً.. أن من كان يجالسه ويلقنه ويعلمه في البيت لم يكن إلا إنساناً يجهل “ألف باء” الأبجدية، ولكنه أستاذ في مهارات الإرادة والإقناع، ومعلم في فنون التحايل على الذات وتقديم النفس بصورة الواجب الصرف!
تختزن البيئة المحلية بكل اختلافاتها الجغرافية والمناخية والاجتماعية حكايا وقصصاً وروايات لحالات فردية أو جمعية تعطي عنواناً عريضاً بأن ثمة من يحتضن ويتلقف التعليم، ويؤمن به بغض النظر عن قوانين “الإلزام” التي تضمن توجيه الاستثناء، أما القاعدة العامة فتقضي بأولوية الدراسة وتأمين الشهادات حتى لو على حساب الأكل والشرب والكساء، كما زرع فينا من اجتهدوا علينا ونحاول حصاده في الأبناء؟
تقول الحقائق إن في بلدي شرائح مكتنزة وغنية، وأخرى ورثت المهن والحرف ومجتمع الأعمال وتلتزم بميراث “الصنعة” التي تطعم خبزاً – كما يحبذون – ولكن ليس خفياً أن السواد الأعظم الذي تمثله مقاعد البرلمان وتوثقه السجلات والإحصاءات الوطنية هم عمال وفلاحون وصغار كسبة ومسترزقون ومتوسطو دخل، كلهم يجمعون على أن التعليم وتأبط الشهادات الأعلى هما السلاح والسبيل الوحيد الذي يوصل إلى القيم الاجتماعية والغنى “العصامي”، وليس ذاك المعلب والجاهز بحكم العائلة أو المنصب أو الجاه.
في مجتمعي ثمّة من يحترم العلم ويشيب وهو مراهق من السهر لينافس ويحصل على “الشهادة” في بيئة لا ترى ما يشبع النظر سوى القلة والحاجة، ولكنهم أناس “مؤمنون” بالجد والسهر والجوع والبرد والحر كعوامل انتصار على “الفقر” المادي.. إنهم آباء وأمهات يستميتون لينجح ابنهم، يتركون الدنيا وما فيها ليتابعوا نتائج ولدهم، وهي عائلات رمت الإرهاب والحرب وراء ظهرها لتعلن استكمال نهج يحاربنا عليه الغير بتدمير المدارس وحرق الكتب وحواضن العلم.. لكن النصر سيكون حليف طلابنا ولو كره الجهلة.
علي بلال قاسم