الأشياء تتداعى!
حسن حميد
أعترف، أن روايات كثيرة أثرّت فيَّ، وغيّرت مجرى حياتي، وجعلتني أعدُّ الحياة حلماً عليَّ أن أُجهد كلَّ شيء فيَّ كيما أحققه، كان عليَّ أن أماشي النهارات الحرون كيما أحقق حلمي، وأن أسهر الليالي الطوال قراءة وتحبيراً وتحليقاً مع الأسئلة كيما أمدّ روحي بالطاقة التي أغالب فيها النهارات الجهوم!
من تلك الروايات التي أمطرت في قلبي. وأوقفتني أمام حلمي، أي أن أعيش عشق التراب، ومعاني الوطنية، والدوران حول معاني القرى مثل الدراويش، ومجالسة دروب الأجداد، وسماع النداءات المحمولة على كفِّ الرجاء، والإحساس بمعاني النداوة التي تكسو الأزاهير، والنباتات، والأعشاب، والبراري..؟ رواية الكاتب النيجيري تشينو أتشيبي التي عنوانها (الأشياء تتداعى) التي أوقفها على حديث مديد دار حول الحياة القبائلية في بلاده، وتقلبها بين قانونين صلدين، القانون العشائري/القبائلي والقانون المدني من جهة، ودخول العدو إلى الحياة العامة عنوة وما أحدثه من خراب للدورة الدموية للناس والمجتمع من جهة ثانية.
الرواية تمنح قارئها أبعاداً كثيرة ومتعددة، ومنها البعد الوطني في مستويين، الأول منها هو المجتمع قبل دخول العدو الخارجي الاستعمار، والثاني منها هو المجتمع وقد سيطر عليه العدو الخارجي، والتضاد الحاد ما بين ثنائيات الوطني واللا وطني، والظلم والعدل، والحب والكراهية، والحياة والموت، والجمال والقبح! وتصوير المواجهة الشعبية مع الاستعمار وعبر أسلوبين اثنين شُغل بهما، الأول أسلوب استمالة الناس وجعلهم شركاء في قبول الاستعمار، والثاني أسلوب القسوة وعدم احترام الناس، وقيادتهم بالقوة، وهذا ما أدّى إلى انقسام المجتمع ما بين مؤيد لهذا الأسلوب أو ذاك، الأمر الذي لم يجعلهم يفكرون بالمشكلة الأساسية وهي وجود المستعمر؛ لأن الأسلوب في التعامل والقيادة ليسا هما الأساس حين يظل الاحتلال احتلالاً!
تشينو أتشيبي من مواليد سنة 1930، درس التاريخ والدين، وأحب الإعلام والصحافة، فعمل في الإذاعة، اشتغل في أعمال الإرساليات التبشيرية، زار بلداناً كثيرة، اكتسب ثقافات مهمة عن طريق السفر ومخالطة الآخرين، واكتسب شهرة أدبية طافحة بسبب انتقال رواياته إلى لغات عالمية وقد رشح لنيل جوائز عالمية كثيرة.
رواية (الأشياء تتداعى) هي حكاية قبيلة بعاداتها وتقاليدها، وبـ بطلها (أوكانكو) الذي تمرد على أعراف القبيلة، فطرد من حمايتها وأراضيها، بسبب ذهابه إلى قبيلة أخرى من أجل حل مشكلة وقعت لدى هذه القبيلة، حين ذهبت امرأة من قبيلته إلى سوق تلك القبيلة، وهناك قُتلت، هذا الرسول (أوكانكو) خيّر القبيلة القاتلة بين الحرب وبين دفع دية هي عذراء وصبي، العذراء ستدفع إلى زوج المرأة التي قتلت كيما يتزوجها، والصبي سيكون خادماً عبداً له. تنفي القبيلة (أوكانكو) لأنه تمرد على قوانينها، فيرضى بالنفي، لكن حين يدخل المستعمر الإنكليزي يعود إلى قبيلته، وينادي بقتال المستعمر أياً كان الأسلوب الذي يتبعه سواء أكان ليناً أم قسوة! ممثل الاستعمار هو الرجل الأبيض الأشقر (براون) الذي يبشر بالديانة المسيحية في مجتمع وثني، يبني الكنائس، والمدارس، والمؤسسات التي تنظم حياة المجتمع كيما يستحوذ على الناس ويستميلهم، ثم يخلفه ممثل آخر للاستعمار هو الأبيض الأشقر (جيمس سميث) الذي يتبع أسلوب القهر بالقوة، وإخضاع الناس بالحديد والنار والسجون، كلاهما مستعمر، وغايتهما واحدة، وهذا ما أدركه (أوكانكو)، وهذا ما عمل على محوه، ولم يكن لديه قوة تعينه سوى حلمه أن تعود بلاده إلى أهلها، ورؤيته أن كلَّ أُعطيات المستعمر مسمومة، ولذلك كان لابدّ من المواجهة التي كلفت الكثير لكنها في الخاتمة جاءت بالاستقلال.
هذه الرواية علمتني كيف أجرّد حلمي مثل راية لأمشي في ظلالها، وأن أنحّي صور تجميل القبيح (الاستعمار) جانباً، كيما تعود البلاد من عتمة الليل مجلوةً مثل الفجر الولود!
Hasanhamid55@yahoo.com