في ندوة كاتب وموقف نزار قباني.. نموذج شعريّ متفرّد
لا يمكن أن تمر ذكرى رحيل قباني دون الحديث عنه وهو الشاعر الذي حرك مستنقعنا العربي بشعره ونثره.. من هنا كان نزار قباني محور ندوة البرنامج الإذاعي “كاتب وموقف” مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة بمشاركة الشاعر بيان الصفدي وإدارة الإعلامي عبد الرحمن الحلبي.
قالت لي السمراء
وبيَّن الصفدي أن أهمية نزار قباني متعددة الوجوه فهو الذي حقق نقلة نوعية وانعطافة في عالم الشعر منذ أن صدرت مجموعته الأولى “قالت لي السمراء” عام 1944 بـ300 نسخة، والتي زلزل فيها هدوء الساحة الشعرية حين فاجأ المجتمعَ المحافظ بشعر يتسلل إلى خصوصيات العلاقة بين الرجل والمرأة بجرأة لافتة، فاستطاع أن يقدم قصائد فيها عذوبة وبساطة تلامس القلب مباشرة، على الرغم من أن الشعر السوري في ذلك الوقت عرف إبداعات كثيرة ومحاولات تجديد وتغيير في أفكار المجتمع، إلا أن صدمة قباني الشعرية كانت استثنائية على مستويين برأي الصفدي: الأول فني، حيث لأول مرة يظهر في الشعر العربي شاعر موهوب يتحدث بلغة في منتهى الشفافية والبساطة والجرأة بعيداً عن الجزالة اللغوية التي كانت معروفة فأثّر بذلك على لغة الشعر العربي، ومن هنا تأتي أهمية قباني برأي الصفدي إلى جانب الموضوعات التي تحدث عنها في شعره، والتي كان لها علاقة بما هو يوميّ، فكان يكتب عن أبسط الأشياء وأكثرها حميمية وكأنها كون صغير، والأهم كتابته عن المرأة بطريقة جديدة مختلفة عما كان سائداً من غزل صريح في الشعر العربي:
ألوان أثوابها تجري بتفكيري
جريَ البيادر فـي ذهن العصافيرِ
أين الزمان وقد غصت خزانتها
بكل مستهتر الألوان معطورِ
وبيّن الصفدي أن مجموعة قباني قالت لي السمراء غلب عليها التأملُ في تفاصيل المرأة وحاجاتها، وقد صُدِم بها المجتمع إلا أنها تركت أثراً كبيراً في الشعر والحياة، علماً أن نظرة قباني حينها برأي الصفدي لم تنضج كما يجب حين غلبت عليها الشكلية والملامسات الطفيفة لقضية المرأة التي لم يغفل عنها فيما بعد حين تحدث بشكل أعمق عنها عندما تكون ضحية مجتمع ذكوري لا يرى فيها سوى سلعة أو محطّ عيوب تطالها:
“يا لصوص اللحم يا تجّارهُ/هكذا لحم السبايا يؤكلُ/من أنا؟ إحدى خطاياكم أنا/ نعجةٌ في دمكم تغتسلُ/ارجموني.. سددوا أحجاركم/كلكم يوم سقوطي بطلُ”
قفزة نوعية
من الناحية الفنية سجل قباني -كما أشار الصفدي- قفزة نوعية حيث أن تجديد شاعرنا لم يتوقف عند الجرأة في هزِّ سكون المجتمع ولا في العذوبة والبساطة المحببة في الشعر حين كتب ما يعدُّ من بدايات شعر التفعيلة التي سبقت زمنياً تجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة كقصيدة “اندفاع” من مجموعة “قالت لي السمراء”:
“أريدك/أعرف أني أريد المحال/وأنك فوق ادعاء الخيال/وأطيب ما في الطيوب وأجمل ما في الجمال”
أما في مجموعته الرابعة “قصائد” عام 1956 فقد دخل قباني -برأي الصفدي- في الهمِّ العام من الباب الواسع من خلال قصيدة “خبز وحشيش وقمر” رغم تواضعها الفني، حيث اللغة المباشرة والهجاء النزق:
“في ليالي الشرق لما/يبلغ البدر تمامه/يتعرى الشرق من كل كرامة”
شاعر الأمة
ولأهمية قباني الشعرية وشهرته التي حققها منذ بداياته أحس أنه شاعر الأمة العربية، وكان يعبِّر عن ذلك برأي لصفدي بشكل مبالغ فيه، فكانت انعطافته من خلال شعر الهجاء السياسي، فكتب قصائد كثيرة تعبِّر عن ذلك، وكانت قصيدته ذائعة الصيت “هوامش على دفتر النكسة” سبباً في منع أعماله ودخوله مصر مما جعله يكتب رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر مما جاء فيها:
“سيادة الرئيس.. إذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفاً بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح.. من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له؟ القضية ليست قضية مصادرة شاعر، القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافر الفكر الغوغائي لأنه تفوّه بالحقيقة.. أُطعن بوطنيتي وكرامتي لأنني كتبت قصيدة؟ يا سيدي الرئيس لا أصدق أن مثلك من يعاقب النازف على نزفه.. لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك”.
وأهم ما جاء في القصيدة:
“يا سيدي السلطان/كلابك المفترسات مزقت ردائي/ومخبروك دائماً ورائي/لأنني حاولت أن أكشف عن حزني وعن بلائي/ضُرِبتُ بالحذاءِ”
وأوضح الصفدي أن شعر نزار قباني بعد حزيران انعطف بشكل جارف نحو الموضوع السياسي الذي أخذ طابعاً هجائياً غالباً، فكتب قصائد احتفائية بالثورة الفلسطينية وتناول مسألة الاستبداد بشكل رئيس، ونالت سلطات النفط نصيباً وافراً من ثورته:
“الشعر بعد حزيران يكون قطعة سلاح أو لا يكون.. كل كلمة لا تأخذ في هذه المرحلة شكل البندقية تسقط في سلة المهملات وتصير علفاً للحيوانات” وبذلك راح يدعو إلى دور سياسيّ وشعبيّ للشعر وراحت تشوب نبرتَه نزعةٌ إلى العدالة:
“يا بلدي الطيب يا بلدي/لو تنشف آبار البترول ويبقى الماء/وتصير يواقيت التيجان نعالاً في قدم الفقراء/تحوّل كبير”
وختم الصفدي كلامه مذكِّراً بنصائح قباني للكتّاب المرتزقة في عالمنا العربي كي يتألقوا في مهمتهم:
“لو شاءت الأقدار أن تكون كاتباً يجلس تحت جبَّة الصحافة النفطية فهذه نصائحي إليك:
أدخل إلى مدرسةٍ تعلم الأمية.. أكتب بلا أصابع وكُن بلا قضية.. كن غامضاً في كل ما تكتب والزم مبدأ التقيّة.. خصِّص عمودَك اليومي للأزياء.. لا تتذكر أنبياء القدس أو ترابها فإنها حكايةٌ منسية”.
أمينة عباس