فقر حيلة وليس حالاً؟!!
في مواسم أزمات الإنتاج الزراعي السوري، قرائن إدانة تشير بأصابع الاتهام إلى أحدٍ ما أو جهة، أو ربما حكومة وحكومات متوالية على الإدارة التنفيذية في بلدنا، إما بالتقصير، أو التخطيط الخاطئ، أو قلّة الاكتراث، وغيرها من مقدمات الفشل التي لا تفضي إلا للنتائج ذاتها التي يفضي إليها الفساد الموصوف، الذي ندّعي أننا أشهرنا سيوفنا وحرابنا في مواجهته.
فالهدر فساد، وكذلك “دفن الموارد”، وتفويت الفرص، وتحييد الميزات الاقتصادية في بعديها النسبي والمطلق، والاستثمار القاصر بخياراته المرتبكة ومطارحه المشتتة، كلّها ملامح خلل يتماهى تماماً بخلاصاته مع الارتكاب، لأن المحاكمة المنطقية الأخلاقية تؤكد أن لا فرق في معايير هذا الوجود بين القتل الخطأ والقتل القصد، وإن التمست القوانين الجنائية فروقاً جزائية.
مواسم سورية تضيع هدراً أو شبه هدر.. إما تصديراً خاماً أو تلفاً وكساداً، أي إما نصف ضياع، أو ضياع كامل لمقدرات وموارد وجهود وأموال.. تماماً كما هي ملامح بصمات الفساد في ميادين التنمية والإنتاج، والسبب تقاعس وتقصير، حيث لا يبدو السهو مسوغاً، ولا قلّة الحيلة ذريعة، ولا ضبابية الرؤية عذراً مقبولاً.
اليوم تتدفق من حقول الإنتاج إلى مسامع الحكومة – كما سابقاتها – استغاثات مزارعي البطاطا “الكاسدة”، وقبلها صراخ مزارعي الحمضيات، والتفاح والبندورة ومنتجي زيت الزيتون، وسلسلة منتجات تندرج في قائمة الخصوصية السورية.. تقاليد سنوية من الشكوى حوّلت “مواسم الخير” إلى مواسم أزمات، ليبقى الحلّ محيّداً عن طاولات النقاش والعصف الذهني الذي يدّعيه من “أوسعوا” مؤسساتهم بحثاً واجتماعات لابتكار الوصفات الشافية.
مريب فعلاً أن نتجاهل التصنيع الزراعي كحل “مفتاحي” لمشكلة مترامية الطيف، رغم القناعات التي لم تخل منها خطة أو برنامج عمل حكومي منذ عقود من الزمن وحتى يومنا هذا، رغم أن نشر منشآت هذا النوع من المشروعات على نطاق واسع في مناطق الإنتاج السخية، يتسم بتكاليف استثمارية أقل بكثير مما نحاول تجريبه جذافاً من عالم الصناعة الرحب، وعلى الأرجح سيكون من العسير على أي مسؤول حكومي بيان السبب و إقامة الحجة المقنعة، بشأن “لهونا” بأحلام تجميع السيارات وسلع هندسية أخرى معقدة، لا يمكن لعاقل أن يتوقع أننا قادرون على إخراجها خارج المضمار المحلّي الضيق، وكأننا في حالة تحدٍ مع عقدة نقص تكنولوجية طالما قهرتنا، ونحاول عبثاً قهرها؟!!.
قديماً قيل: ليس أشقى من امرئٍ يسعى لأن يكون كما لا تؤهله إمكاناته الذاتية، وما يصح على البشر يسري على المجتمعات والدول، فنحن بلد زراعي بامتياز غارق حالياً في “وصمة” شبه خواء من منشآت القيمة المضافة الحقيقية، وهذه الأخيرة تتوفر بالمطلق في مضمار التصنيع الزراعي، وغالباً المنتج المنتظر غذائي وصفه أحد رجال الأعمال الكبار بأنه عبارة عن “تحويل التراب إلى نقود”، لأنه مرغوب مهما كانت الكميات في الأسواق الخارجية، حتى إنه ليس من الحكمة والرشد الاقتصادي أن نصدر منتجاً زراعياً خاماً، فكل ما ينتج يجب أن يكون للتصنيع بعد كفاية حاجة الاستهلاك المحلّي.
يمكن أن نبدأ رحلة نشر أنماط التصنيع الزراعي بمشروعات صغيرة فردية وعائلية في مواقع الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وبهذا نحقق الهدفين الاقتصادي والاجتماعي معاً، ونحل مشكلات فقر وبطالة، وتكون الحكومة بدعمها هذا النوع من النشاط قد أوفت بجزء من التزام قد قطعته في سياق برنامجها الذي أطلقته منذ مباشرتها مهامها، وهو دعم المشروعات الصغيرة.
بقي أن نختم بحقيقة قد يكون الكثيرون منّا على غير علم بها، وهي أن معظم الصادرات السورية خلال فترة الأزمة ولاسيما في عام 2017 كانت من إنتاج أسري يدوي بسيط، فماذا نريد أكثر من ذلك دليلاً لنقتنع بأن الأوان قد آن لاستثمار ميزاتنا الاقتصادية، وإيقاف نزيف الموارد الحاد؟؟.
ناظم عيد