ثقافةصحيفة البعث

مهرجان كربلاء الدولي للمسرح ..حصاد مثمر للفن السوري ..

أضفى العرض المسرحي الهادف والمؤثر (بل أحياء) على الافتتاح قيمة استثنائية  بما يتضمنه من رؤية جديدة وكشف جديد  بأسلوب سوريالي، وليد من جثث وجثامين ترفض قبورها وتخرج محتجّة ومستنكرةً ورافضة أن تصير دماؤها هباء.. فهلا تحلينا ببعض الحياء؟ تنقلك تراتبية الأحداث في ذاك العرض من الكوميديا السوداء عبر حوار نابع من الوجع والحرمان لحفاري القبور ورفاق الشهداء، إلى صلاة الجنازة وقيام الروح، ثم غضب ومخاوف رموز الفساد من فضح حقيقتهم وانتشار الذعر والتمرد في البلاد.

تأتي محاولات الإقناع اعتماداً على وساطة رجال الدين والمصلين في محاولاتهم كي يتدخل نساء الشهداء المستنكرين والواقفين، ثم تتصاعد الدراما عبر مشاهد تحفر أثرها في الوجدان حيث لقاء الابنة المتلهفة بأبيها المتمسك والرافض، ثم تتصاعد الدراما إلى أوجها مع مشهد الأم (أليسار صقور) ومحاولاتها اليائسة لتضم ابنها وفلذة كبدها ولترى وجهه الملطخ بالدماء. تعاطفنا مسلوبي الإرادة وتأكدت تلك القيمة اللحظية للإحساس.. الإحساس أولا أما الفهم فيأتي لاحقاً.. انتقلت عدوى البكاء وتساءلت: أيمكن لدموع أمٍّ أن توقف الحرب وتوقف هذا العناء؟

“بل أحياء” عمل مسرحي يجسد قول: “الممثل الناجح لا يمثل بالمطلق إنما يعيش الحالة والشخصية التي يؤديها بمشاعرها وأحاسيسها وأفكارها وتصرفاتها وردّات فعلها وانفعالاتها”، أما العرض المسرحي الثاني “شكسبير ملكا” فقد جاء في ثالث أيام المهرجان ليؤكد أن الشعوب تتشابه أما الحكام فيختلفون، والفكرة أبسط مما نتصور وأعمق مما نتصور التراجيديا أم الكوميديا.. واحدة تنبع من قلب المأساة وأخرى تستنجد بالموقف ليصير سلاحاً ذا حدين حد يفضح وآخر بوشاح من الهزل يستر ويلهي ويفلح..  “شكسبير ملكاً” عمل مسرحي هادف يزداد تألقاً بنجومه المتألقين ومخرجه ربان السفينة القادر على استنباط كل الإمكانات الكامنة للممثلين، وإخراجها في عمل يتسم بالشمولية والكمال، وهو بذاك المستوى الغني بمواقف متنوعة تنتمي إلى التراجيديا والكوميديا في آن والفكرة تكمن في ذاك الخلاف المستتر بين رغبات الحكام وحاجات شعوبهم، وبين رصاص الكلمات ومقصلة الرقابة والرغبات، فملكة بريطانيا العظمى إليزابيت (أليسار صقور) تبحث لشعبها عن رفاهية مفخخة وجدتها في كوميديا الهزل والملهاة، فصارت تمارس ضغوطها على كاتب المسرح الملكي الكبير شكسبير (ناصر مرقبي) مستعينة بمساعدها ورجل الدولة اللورد آرثر ( نبيل مريش) وبين ضغوط الملكة ومحاولات شكسبير للتملص بحجة أنه لا يستطيع الكتابة في هذا الاتجاه، تهدد الملكة بالاستعانة بكاتب  آخر ثم تطلب اتصالاً مع ملك فرنسا، ليعرض عليها كاتب فرنسا الكوميدي موليير (محمد أبو طه).

تتصاعد الأحداث مع زيارة الملك الفرنسي (فايز صبوح) وعقيلته (لمى غريب) وعبر تلك الإشارات الموحية بفضيحة ما، وفي حدة المواجهة بين موليير وشكسبير  تطلب الملكة إليزابيت مبارزة من نوع آخر يقدم  كل واحد منهما نصاً له ليتم الحكم لاحقاً، وعلى هذا الأساس تبدأ البروفات ليتعاقب الاثنان على خشبة المسرح مع كادر طلابهم والممثلين المبتدئين، ومع لحظاتٍ لا تخلو من مواقف كوميدية تحققها تلك العلاقة وردات الفعل مابين المعلم والمتعلم، أما في الجانب الآخر فتتكشف خيوط فضيحة تؤدي إلى خلاف بين الملوك لا يمكن لأي كوميديا أو تراجيديا أن تداريه أو تستر عليه، ينسدل الستار وعلى نورٍ خافت تقف التراجيديا بمواجهة الكوميديا يعتليان المنصة سوياً ويتوج كل منهما الآخر، ليعلنا لنا وللآخر أن الثقافة تاجٌ على رؤوسنا وعلى رؤوس الجميع، وأن الإنسانية بلا أفكار وأقلام مبدعيها تضيع.

هذا على صعيد الفكرة، أما على صعيد التكنيك فتتحقق تلك الرؤية الشاملة للمخرج  لؤي شانا مع قدرته على خلق روح التعاون بين أجيال مختلفة من هواة ومحترفين وتوظيف الأدوار بحيث يحافظ كل ممثل على خصوصيته ويغني بها، فكانت الطرافة تتخلل تلك المداخلات مابين الفصحى والعامية وإيحاءات المفردات الأجنبية، وكانت التعابير والإشارات الملكية وكانت اللهجة المحكية والمحلية، كان العمل برمته مزيجاً متكاملاً  ومتجانساً أيضاً من حيث الإضاءة والديكور والملابس التي استطاعت أن تحاكي ذلك العصر عبر جهود المصممة (ابتسام خدام).

لا يسعنا أخيرا إلا التوجه لجميع من ساهم في إنجاح هذا العرض من ممثلين وفنيين، وشكر خاص لمساعدة المخرج غادة إسماعيل.. أما الجوائز والتكريمات فكانت جائزة أفضل مخرج  للؤي شانا وأفضل ممثل ل ناصر مرقبي، وتم تكريم الممثلة أليسار صقور والممثلة لمى غريب، كما تم أيضاً تكريم مساعدة المخرج غادة إسماعيل.

حسين صقور