الوعي الديني والوطني والمناعة الصحية ضد مرض التطرف.. الجزائر أنموذجاً
بقلم د. محمد توفيق البوطي رئيس اتحاد علماء بلاد الشام
عانت الجزائر طويلاً من الاستعمار الفرنسي، الذي استمر جاثماً على صدرها مئة وثلاثين عاماً يعيث فيها فساداً وسفكاً للدماء، في محاولة منه أن يجعل منها امتداداً لنفوذه وقهره، من خلال شتى وسائل القتل والقهر والفرنسة والتنصير، ومسخ ثقافة الشعب وانتمائه، وقدمت الجزائر في مواجهة الآلة العسكرية والسياسية الفرنسية ملايين الشهداء في مجازر وحشية مارستها لقهر الشعب الجزائري، ولكن إرادة الشعب انتصرت أخيراً، واستعادت الجزائر حريتها وكرامتها وسيادة قرارها التي أرادت فرنسا مصادرتها، وفي عام 1962 ارتفع العلم الجزائري معلناً انتصار الشعب الجزائري.
لا شك أن احتلالاً يستمر تلك الفترة الزمنية الطويلة سيترك آثاراً عميقة في الجزائر وثقافة أبنائها، ولكن الانتماء بقي يجري في دم أبناء الشعب الجزائري، وقد ترجمه ذلك النشيد الذي غدا روحاً تنهض بها الجزائر، وتؤكد به هويتها:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
لقد صدحت بهذا النشيد حناجر الركبان، وغدت تردده، وتهتف به الشيب والشبان في كل شبر من الجزائر، في حماسة تؤكد أن شعب الجزائر وانتماءه أقوى من العدوان، وأنه حريص على هويته حرصه على روحه المتوثبة.
وبدأت الجزائر مسيرة بناء ذاتها، ولكن المكائد لم تكن لتدعها، ولذلك بدأت تتجلى من خلال تطرف ديني تتزعمه فئة تغذيها جهات خارجية، تستنهض الفتنة باسم الدين، وانقاد الكثيرون لدعوة لبست مظهراً دينياً، ورفعت شعارات تغري الشعب الجزائري بالانسياق وراءها، وفي عام 1990 بدأت “العشرية السوداء” لتهدم ما تم بناؤه خلال ثلاثين عاماً، وتمزق شعباً لم تستطع فرنسا تمزيقه، وتشوه ديناً ظل الشعب الجزائري يعتز به طيلة فترة الاحتلال وما بعد الاحتلال، وظل مصدر إلهام لمقاومة الاستعمار، ليغدو بيد المتطرفين أداة تضليل، ووسيلة للتغرير بالعامة والجهلة والغوغاء، واستدراجهم إلى تنظيماتهم الإرهابية.
عانت الجزائر من التطرف والإرهاب الذي كان يمزق شعبها، وينشر المجازر والفساد في أرجائها عشر سنوات عجاف، ولكن منعطفاً حصل في الأزمة الجزائرية يتمثل في تسلم الرئيس عبد العزيز بو تفليقة الذي طرح ميثاق السلم والمصالحة، بالإضافة إلى موقف لا تنساه الجزائر وشعبها، فقد استخدم المتطرفون في الجزائر غطاء الدين للتغرير بالعامة والغوغاء، وزجهم في نشاطهم الإرهابي الإجرامي، باسم الجهاد، فتصدى لهم رجل أحبته الجزائر وأحب الجزائر، وكان موضع ثقة في قلوبهم، وله تأثير كبير في نفوسهم، وقد وجه إلى الشعب الجزائري النداء بعد النداء، ليكبح جماح انسياقه وراء الدعوات المتطرفة، ولكن صوته ظل محجوباً عن الجزائريين، إلى أن حضر إليه وفد جزائري إعلامي بمهمة رسمية، ليوجه كلمة إلى الشعب الجزائري ينبهه من خلالها إلى خطأ المسار الذي اتجه إليه الكثير من أبنائه.
وعندما سمع الإخوة الجزائريون صوته في ذلك النداء كان له أثره القوي في إيقاظ الكثيرين، وإعادتهم إلى سبيل الرشد، وإنقاذهم من السير في النفق المظلم.
وكان قد ألّف كتاباً بسبب الأزمة الجزائرية، يوضح حقيقة الجهاد، ويكشف زيف ادعاء الإرهابيين أن جرائمهم وممارساتهم الإرهابية من الجهاد، وقد سماه: الجهاد في الإسلام: كيف نفهمه وكيف نمارسه. إنه العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله.
أما عن كتابه (الجهاد)، فقد تعرّض العلّامة الشهيد بسببه إلى هجوم من شتى أنحاء العالم الإسلامي، يتهمونه بأنه عطّل الجهاد، ومنهم شيوخ أججوا الفتنة الأخيرة في سورية، ورد على هجومهم بملحق لكتابه ضمه فيما بعد إلى الكتاب نفسه، ثم عندما غدا التوجه الدولي إلى إنهاء الأزمة في الجزائر صدرت الفتاوى عن أولئك الشيوخ أنفسهم بأن ما يجري في الجزائر ليس من الجهاد، وأنه يجب إيقاف هذا النزيف …!!.
بدأت بهذه المقدمة المطولة بعض الشيء لأتحدث عن ضرورة الوعي الديني والوطني والمناعة الصحية ضد مرض التطرف، متخذاً من الجزائر أنموذجاً.
وقد عانت سورية، ولا تزال تعاني من التطرف والإرهاب الذي بدأ في صورة حرب بالوكالة، ثم تجاوز العدو الوكلاء، وبدأ يمارسها بالأصالة؛ لسقوط الأوراق التي استخدمها، وفشل الوسائل التي استعملها، وقد عانت الجزائر من هذه الحرب عشر سنوات أو يزيد، ذهب ضحيتها عشرات بل مئات الألوف، ولكنها تجاوزت محنتها، والحمد لله، واليوم غدت في عافية وحذر بآن واحد.
وقد اخترت الجزائر أنموذجاً لأنني زرتها من قريب، ورأيت فيها من الوعي الوطني والديني ما يجعلها تتمتع بمناعة ضد التطرف والإرهاب بعد أن دفعت ثمناً باهظاً لعودة الأمن والسلام إلى ربوعها.
كنت في الجزائر للمشاركة في مؤتمر يرعاه السيد رئيس الجمهورية، وتقيمه وزارة الشؤون الدينية والأوقاف لبحث موضوع علمي أكاديمي حول المقاصد الشرعية في الإسلام، وقد وجدتُ في الجزائر الشقيقة من المحبة لسورية والتعاطف معها ما جعلني أشعر وكأنني في سورية، أو كأن سورية وألمها وأملها في الجزائر، وقد كان الإخوة في المؤتمر أوفياء لمن أحبهم وأسهم في كبح جماح الفتنة في بلدهم العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي.
بل جعلوا في الفقرة الأولى من المؤتمر مناسبة لإحياء الذكرى الخامسة لاستشهاده، فعرضوا بعد الجلسة الأولى منه الكلمة التي وجهها للشعب الجزائري لتنبيهه لخطأ الانزلاق في نفق الفتنة، فكانت ساعة مؤثرة جداً في الحضور.
وقد لفت نظري كلام بعض الإخوة عن الأساتذة الجامعيين الجزائريين المتخرجين من دمشق، فقال: لقد وجدنا في المتخرجين من سورية الإسلام الصحيح، الذي يرفض التطرف، ويحمي شبابنا من الانسياق وراء الدعوات المشبوهة، ولذلك فإنهم قد تسلموا مواقع مهمة من جامعاتنا، ومؤسساتنا التعليمية الشرعية.
وقد أجرت قناة النهار الجزائرية حواراً مباشراً معي على الهواء، تناول الوضع في سورية، وكان آخر سؤال وجهه المحاور: أن هناك من المراقبين من يقول: إن سورية إذا سقطت في أزمتها فإن الجزائر ستلقى المصير نفسه بعدها، فقلت له: أولاً الجزائر تتمتع بمناعة اكتسبتها من معاناتها الطويلة، لذلك فهي أوعى من أن تقع فريسة الإرهاب مرة أخرى بإذن الله، ثم إن سورية لن تسقط، بل لقد انتصرت، وهي تحقق الانتصار إثر الانتصار، على الرغم من شدة وطأة التآمر عليها.
لاحظت أن الجزائر قد استعادت عافيتها ولله الحمد، ومن مظاهر العافية أنها استعادت الصفة الدينية التي حاول الإرهابيون مصادرتها لتغدو لصيقة بممارساتهم الغريبة عن الدين، وها هي مساجدها تستعيد نشاطها دون مظاهر التطرف والتكفير، ودون أشكال منفرة غدت سمة لأصحابها، وليست سمة للإسلام، وها هي حلقات القرآن تنشط دون أن يكون الإرهاب وصياً عليها وعلى روّادها، وها هي جامعاتهم وكلياتهم الدينية تنشر نشاطاً علمياً أكاديمياً وحضارياً، يصحح المفاهيم، ويوضح الحقائق التي سعى المتطرفون إلى مسخها من خلال مهمة كلفتهم بها جهات خارجية لتنفير الناس من الإسلام الذي يقتل ويغتصب، فالإسلام هنا إسلام علمي يبني علاقته مع الآخرين على: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) وعلى: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين)، وقد لمست في المؤتمر نشاطاً علمياً يعيد للإسلام حضوره العلمي، ويناقش موضوع المقاصد الشرعية ليربط الباحثون الحكم الشرعي بمقاصد الشريعة الخمسة، بعقلانية وعمق علمي مع التزام بالنص الشرعي ومرونته واتساعه.
نعم نهضت الجزائر من محنتها، فسددت الديون التي أرادت فرنسا أن تجعلها رهينة بها، فكان في مقدمة أولويات الرئيس بو تفليقة سداد تلك الديون، وبدأت تزدهر وتمضي في تطور عمراني وعلمي وصناعي مطّرد. وثمة خطط لتقدم زراعي وصناعي توظف فيه الموارد البشرية لتستثمر الموارد الطبيعية التي أكرم الله بها أرض الجزائر.
وقد حاول صانعو الخريف الأعرابي المشؤوم أن يوجهوا ريحهم الصفراء السموم نحو الجزائر في أيامهم الأولى، ولكن وعي القيادة الجزائرية والشعب الجزائري أفشل تلك المحاولة، وأنها لعناية إلهية أكرم الله بها دماء الشهداء وأرض الشهداء تجلت في صرف تلك المحاولات المشؤومة عنهم ولله الحمد.
وإذا وجهنا أبصارنا إلى وطننا الصامد، بعد سبع سنوات ونيف من بدء الفتنة فيه، والتي تجلت في حرب كونية شرسة حشدت لها أكثر من ثمانين دولة الجيوش المدججة بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، ومورست فيها ألوان التخريب والتدمير، وارتقى فيها عشرات الألوف من الشهداء، بدأ بحرب بالوكالة على أيدي العملاء من شتى الأطياف، كما أشرت في مطلع الكلام، ثم بدأ الأصلاء بمباشرة دورهم … إذا وجهنا أبصارنا نحو وطننا بعد تلك السنوات الصعبة، التي قدمت خلالها سورية دروس التضحية والصمود للعالم كله، نجد أن صمود وتضحيات شعبنا وقيادته آتت ثمارها، وها هي تمزق رهان العدو وعملائه، وتعرّي زيف الشعارات التي طرحت من إصلاح وحرية وخدمة للدين… ومع تباين انتماءاتهم يجمعهم وصف الخيانة والعمالة، جمعهم ولاء للعدو، وتضاربت مصالحهم واختلفت ولاءاتهم، واتحدت أساليبهم في التخريب والقتل… أسماء كثيرة … والهدف في النهاية تدمير وطن وقتل شعب وخدمة العدو.
ولكن ها هو شعبنا يحقق الانتصار إثر الانتصار… ويطهر الأرض من فلولهم، ليعيد للوطن أمانه وازدهاره ووحدة أرضه وشعبه.
لم تحمّل الجزائر المؤسسة الدينية مسؤولية أزمتها، مع أنها لبست قناع الدين، بل استمرت المؤسسة الدينية في تحمّل مسؤولياتها في مناهضة ومكافحة التطرف والإرهاب، وتعاونت مع القيادة السياسية في تحقيق فهم صحيح للدين يبعد عنه تلك المفاهيم المتطرفة.
ولن تحمّل سورية المؤسسة الدينية مسؤولية أزمتها التي شاركت فيها أطياف كثيرة، بل كانت المؤسسة الدينية إلى جانب الوطن وجيشه؛ تقدم الشهداء دفاعاً عن سلامة الوطن وسلامة الدين الذي هو ضمانة سلامة الوطن.
نعم الجرح واحد
والوضع يتطلب وعياً وطنياً ووعياً دينياً يجنبنا الوقوع في شباك مخططات تستهدف سلامة أمتنا ووحدة وطننا، وأعتقد أنه ينبغي أن نكون قد تمتعنا بمناعة تصوننا من خطأ في الحكم يحقق ما لم يتحقق من أهداف المؤامرة.