انكفاء غير مفهوم عن الاستثمار في البادية السورية.. شـــهادات حكوميـــة وغيـــر حكوميـــة تؤكـــد أنهـــا خـــزان تنمـــوي بامتيـــاز
عزت إحدى الدراسات الصادرة عن مركز دعم القرار في الأمانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء أسباب الافتقار لاستراتيجية واضحة ومتكاملة لـ”موضوع إدارة وتنمية البادية السورية”، وتأثير ذلك سلباً على تطوير البنية التحتية لها، وعلى تنظيم وإدارة المراعي للحفاظ على هذا المورد الزراعي الهام، إلى تعدد الجهات العامة المسؤولة عملياً عن تنظيم وإدارة تنمية المناطق الرعوية في البادية، الأمر الذي يؤدي إلى تبعثر الجهود، وضياع المسؤولية ولاسيما ما يتعلق بمنع التعديات على الأراضي والمراعي في البادية وتجنيبها أخطار التصحر..!
لسنا هنا بوارد تناول مسألة تعدد الجهات رغم أهميتها في هذا السياق، وإنما نحن بوارد تسليط الضوء على مسألة استثمار البادية السورية التي تعد حقيقة خزاناً استثمارياً هائلاً كفيلاً بتحقيق عوائد اقتصادية ذات طابع استراتيجي. وربما يستشف للوهلة الأولى أن ثمة مبالغة بالطرح، ولكن إذا ما دخلنا ببعض التفاصيل نجد وبشهادات حكومية رسمية، وأخرى صادرة عن خبراء اقتصاد ومستثمرين يعرفون من أين تؤكل الكتف، أن ثمة إجماعاً على ضرورة استنهاض البادية السورية بكل مقوماتها.
دراسة
فبالنسبة للشهادات الحكومية سبق وأن أعدت مدیریة الاقتصاد الزراعي والاستثمار في وزارة الزراعة دراسة حول الأهمیة الاقتصادیة لإدخال وزراعة شجيرة الجاتروفا الواعدة للطاقة في البادية السورية، إذ أوضحت الدراسة – التي حصلت “البعث” على نسخة منها – أن شجیرة الجاتروفا تمتاز بالعدید من المزایا والخصائص الفنیة والبیئیة والاقتصادیة، حیث تستطیع النمو بكافة أنواع الترب الفقیرة والقلویة والهامشیة والملحیة والحامضیة والغدقة (الموحلة)؛ لذلك فهي تعد زراعة بدیلة بمواصفات عالیة، وهي مقاومة للجفاف، وتستطیع العیش في البیئات قلیلة الأمطار، ما يعني أن البادية السورية تعد المكان المثالي لهذه الشجيرة. كما أن إقامة مشروع لزراعة شجيرات الجاتروفا یعد مجدیاً اقتصادیاً لكون تكالیف إنتاجها قلیلة إلى حدٍ ما مقارنة مع المحاصیل الأخرى، حیث یمكن زراعتها في مختلف أنواع الأتربة، ولا تحتاج لكمیات كبیرة من المیاه والأسمدة ومواد المكافحة، ولا تتطلب سوى بعض العملیات الزراعیة، كما أن بذارها وزیتها مطلوبان في الأسواق العالمیة، ویعد سعر زیت الجاتروفا أغلى من سعر الزیت البترولي الخام بحدود ٣٠%؛ ما یحقق ربحاً مالیاً على مستوى المزارع الفرد وعلى مستوى الاقتصاد الوطني، وأشارت الدراسة أن لزیت الجاتروفا سوقاً عالمياً كالنفط، وتراوحت أسعار مبیعها في السنوات الأخیرة ما بين ٣٠٠ و 700 دولار للطن.
تجارب
وتبین من خلال الدراسات وتجارب الدول المنتجة للجاتروفا أن كل هكتار واحد تقریباً مزروع بشجيرات الجاتروفا يمكن أن ينتج حوالي 2 – 4 أطنان من الزيت الحيوي، وقد یصل إنتاج الهكتار الواحد في الظروف المثالیة للزراعة إلى أكثر من ٢٠ طناً من البذور، تعطي نحو ٨ أطنان من الزیت الحیوي. ویمكن لزراعة الجاتروفا كمحصول اقتصادي أن تكون بدیلاً أو ردیفاً اقتصادیاً وطنیاً یسد الثغرة الناتجة عن نقص البترول والطلب المتزاید على الوقود والمحروقات، ولا سیما في أوقات الأزمات، كما أنه یساهم بتوفیر عملة صعبة من خلال عملیات التبادل التجاري الدولي..!
تسابق محموم
وتزداد أهمية استثمار البادية إذا ما علمنا أن الشركات الأوروبیة تتسابق الآن على استئجار أراضٍ في إفریقیا لزراعة هذه النبتة للحصول على عشرین ملیون برمیل یومیاً في حال تمت زراعة ربع أراضي إفریقیا، أي ما یحول المنطقة إلى منبع نفط حیوي یشبه الشرق الأوسط كوقود أحفوري. هذا بالإضافة إلى إقامة مصفاة لتكریر الزیت وكافة مرافق المعالجة والنقل كي تصبح قادرة على تزوید أوروبا بكمیة عشرة بلایین طن سنویاً على الأقل، وهي كمیة قابلة للزیادة مع ارتقاء أعمال البحث العلمي والتجارب والتطویر على بذور نبات الجاتروفا وفقاً لما أكدته الدراسة.
أقل تكلفة
ومن شهادات الخبراء تجاه أهمية استثمار البادية ما يؤكده الدكتور زكوان قريط إمكانية إحداث منطقة حرة كبيرة في البادية السورية غير المأهولة والمفتقرة للتنمية، لأسباب أهمها: أن تكلفة استصلاحها أعلى بكثير من تكلفة هذا المشروع المقترح، إضافة إلى موقعها الجغرافي في قلب سورية وبالتالي ستكون على صلة بين الدول الممتدة شرقاً، وبنفس الوقت تلك المتصلة بالساحل السوري، وبذلك تكون أقرب للتبادلات التجارية عن طريق البر لدول (العراق – إيران – الأردن)، وكذلك ليست بعيدة عن الساحل، فضلاً عن مساهمة هذا المشروع بتنمية البادية من خلال إعمارها بمشاريع استثمارية توفر فرص عمل تشجع توطين التجمعات السكانية حولها..!
ليس ترفاً
الشهادة الثالثة ساقها لنا أمين سر الجمعية السورية للخيول العربية الأصيلة السابق أمير مارديني معتبراً أن إعطاء الخيول العربية الأصيلة زخماً كبيراً لا يعد ضرباً من الترف الاجتماعي والارستقراطي، وإنما يأتي في سياق التركيز عليها كمصدر من مصادر الدخل الوطني، وبنفس الوقت الحرص على هذه الثروة التاريخية من الضياع. مؤكداً أن الجغرافيا السورية وتحديداً البادية هي البيئة الملائمة جداً لعمليات التربية والإيواء، وتعد وفق كثير من خبراء الخيل البيئة المثالية لذلك؛ لكونها تختلف عن نظيراتها الأوروبية الباردة، والخليجية الرطبة الحارة.
فالمقومات الموجودة لدينا كفيلة بتفعيل وتنشيط هذا الاستثمار الذي لن يقتصر مردوده على الفعاليات الرياضية وما تدره عمليات إيواء المربين الخارجيين العرب والأجانب من قطع أجنبي فقط، بل سيكون له انعكاسات من شأنها تفعيل سياحتنا الداخلية وإنعاش البادية خدمياً وزراعياً أيضاً. فكثير من دول العالم لا تعتبر تربية الخيل مجرد هواية تقتصر على الطبقة الارستقراطية، بل لها أبعاد تاريخية واجتماعية يمكن توظيفها واستثمارها اقتصادياً، فنحن أهل هذه الثروة الذين صدرنا أنقى سلالاتها إلى العالم، أولى بنا النهوض بها، ونكاد نجزم أن العمل على تأهيل جزء من باديتنا السورية ولو بالحد الأدنى من الخدمات والبنية التحتية لهذا النوع من الاستثمار سيجعلها مركز استقطاب للمربين الأجانب، وسيضاعف أعداد الخيول لدينا، ويشجع المستثمرين المحليين على الخوض في هذا المضمار، عسى أن يتردد من جديد صدى صهيل خيلنا في بلدنا بعد أن علا صوته بلاد المعمورة.
من المريب حقيقة ركل أكبر وسيلة إنتاجية متعدد الاستعمالات جانباً دونما استثمار فعلي، ونكاد نجزم أنها من أهم روافع التنمية الاقتصادية الوطنية في حال تم الاشتغال عليها خاصة أننا نتأهب لدخول غمار مرحلة لا هوادة فيها لجهة الاستثمار الحقيقي..!
ح. النابلسي
hasanla@yahoo.com