صفقة القرن : تنفيذ من طرف واحد
بقلم: د. إبراهيم أبراش
كاتب وباحث فلسطيني
الإعلان عن تأجيل ما تسمى صفقة القرن يحتاج لتفكير جاد حول مفهوم التسوية السياسية وحول ما يجري بالفعل على أرض الواقع وهل الرئيس ترامب أجل الصفقة بالفعل أم إنه بتفاهم مع “إسرائيل” و أطراف عربية يقوم بتنفيذ الصفقة من طرف واحد خطوة خطوة وبدون موافقة الفلسطينيين أو التفاوض معهم حولها ؟ هذا يذكرنا بقرار “إسرائيل” تنفيذ الانسحاب من طرف واحد من غزة عام 2005 دون اتفاق رسمي مع القيادة الفلسطينية ، وبعد الخروج من غزة تداعت الأحداث بما يتوافق مع المخطط “الإسرائيلي” بنزع غزة من إيالة السلطة الفلسطينية وعن السياق الوطني .
قبل الاستطراد يجب الإشارة إلى أن أغلب ما يتم تداوله عن “صفقة القرن” هي تسريبات إعلامية حيث لا توجد وثيقة جامعة حول الصفقة تم تقديمها أو طرحها رسمياً ، كما أن ما تم تداوله عن تأجيل الصفقة منقول عن وسائل إعلام الكيان الاسرائيلي، فالقناة الثانية وموقع ديك ديبكا “الإسرائيليان” هما من ذكرا نقلاً عن جايسون غرينبلات المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط إن الرئيس ترامب قرر تأجيل صفقة القرن ربما لعام أو عامين وتم ذلك خلال لقاء واشنطن للبحث في أوضاع غزة يوم الثالث عشر من آذار الماضي .
من المؤكد لو أن الرئيس الأمريكي ترامب وجد تجاوباً من القيادة الفلسطينية لتم الإعلان عن الصفقة ، إلا أن الرفض الفلسطيني الصارم والتحفظ من أغلبية الدول العربية وحتى الأجنبية على الصفقة لأن ما تسرب عنها يتعارض مع القرارات الدولية حول الصراع كما يتعارض مع مرجعيات التسوية ، أيضاً تطور الخلاف الروسي الأمريكي حول سورية وإقالة وزير الخارجية تيليرسون … كل ذلك دفع ترامب ليس للتراجع عن الصفقة بل تغيير آلية تنفيذها وتمريرها ، حيث وبنصيحة “إسرائيلية” رأى أن سياسة فرض الأمر الواقع وتنفيذ بنود الصفقة خطوة خطوة، وامتصاص ردود الفعل بعد كل خطوة كما جرى بشأن القدس واللاجئين والتراجع عن حل الدولتين هي الطريقة الأفضل في التعامل مع بيئة غير متوافقة مع السياسة الأمريكية و”الإسرائيلية” ، وهذا النهج يتوافق مع شخصية ترامب ومع قراراته حول كثير من القضايا الأمريكية الداخلية أو سياساته الخارجية حيث يتخذ القرار وينفذه من طرف واحد ويضع الجميع أمام الأمر الواقع .
خلال ربع قرن من الجري وراء المفاوضات وفي أروقة ودهاليز الشرعية الدولية حول تنفيذ وتطبيق الاتفاقات الموقعة مع “إسرائيل” والاعتراف بدولة فلسطينية ، وفي الوقت الذي تنشغل فيه النخب الفلسطينية وتُشغل معها الشعب بصراع وجدل عقيم حول السلطة والحكومة والمصالحة والرواتب والاتفاقات الموقعة والتنسيق الأمني والحديث عن انتصارات دبلوماسية أو انتصارات للمقاومة ، وفي الوقت الذي تنشغل فيه وسائل الإعلام اليوم بالحديث عن تأجيل صفقة القرن وأسبابه … ، خلال كل ذلك كانت “إسرائيل” ومعها الولايات المتحدة الأمريكية وما زالتا تعملان على فرض وتمرير تسوية الأمر الواقع والتي يتم تخريجها وتسويقها اليوم تحت مسمى “صفقة القرن” .
تسوية تترسخ يوماً بعد يوم و تشارك فيها أنظمة عربية وأطراف دولية وفلسطينيون بجهل من البعض وبتواطؤ من آخرين ، إنها تسوية التلاعب بفكرة حل الدولتين لتقتصر الدولة الفلسطينية على غزة وتصفية الحالة الوطنية في الضفة من خلال سياسة الاستيطان والتهويد وتفريغ السلطة الفلسطينية من مضامينها الوطنية لتتحول لمجرد أداة تخدم تسوية الأمر الواقع والتعايش مع الاحتلال وإخراج قضيتي القدس واللاجئين من مجال التفاوض أو النقاش .
صحيح ، إن مستشاري ترامب اليهود وشبكة مصالحه وعلاقاته وخلفيته الأيديولوجية لعبوا دوراً في الخيال السياسي لترامب حول الصراع في الشرق الأوسط ورؤيته للفلسطينيين و”الإسرائيليين” ، إلا أن مآل الصراع والتسوية السياسية منذ مدريد حتى اليوم وواقع موازين القوى والوقائع التي ترسخت على الأرض كلها لعبت دوراً وكانت الأساس الذي بنى عليه ترامب رؤيته لـ “صفقة القرن” ، كما يمكن القول إن “صفقة القرن” هي محصلة كل ما جرى منذ خروج شارون من غزة خريف 2005 مروراً بالانقسام 2007 وترسخه وتفكيك وإضعاف النظام الإقليمي العربي بفوضى الربيع العربي .
ترامب بدأ بتنفيذ “صفقة القرن” وفرضها على أرض الواقع قبل أن يُعلن عنها رسمياً : قراره حول القدس كعاصمة لـ “إسرائيل” ، تراجعه عن حل الدولتين ، تخفيضه للمساعدات التي تقدمها واشنطن للأونروا ، موقفه من الأمم المتحدة وقراراتها وخصوصاً ما يتعلق منها بـ “إسرائيل” وهو الموقف الذي عبرت عنه باستفزاز ووقاحة نيكي هالي سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة ، تشكيله تحالفات جديدة مع دول عربية و”إسرائيل” لمواجهة إيران، مواقفه المعادية لمنظمة التحرير والقيادة الفلسطينية ، مؤتمر واشنطن حول غزة وتشكيل لجنة مصرية أمريكية “إسرائيلية” بمعزل عن السلطة الفلسطينية الخ ، كلها تندرج في سياق تطبيق تسوية الأمر الواقع أو “صفقة القرن” وخصوصاً أنه لم يحدث أي تحرك دولي جاد لتسوية جديدة أو آلية جديدة كما تطالب القيادة الفلسطينية ، فماذا نحن فاعلون ؟ .