يخيطون الغيوم نصراً
سلوى عباس
ربما كل شيء كان يسير هادئاً حوله إلا خلاياه التي تضج وتضطرب كأنها تغلي دونما نار.. وقلبه الذي خفق بحب وطنه أربكه نبضه وكركبه، فتبدو الأمكنة كلها ملتفتة إلى مفرق ينكسر عليه الضوء في انعطافة قرار همجي ينفذه رعاع مرتزقة بحقه.. كانت المسافة تكبر بين البطل شادي وبين ما كان، وينفجر قلقه على أشده مرة واحدة.. ولا يوقف الصدر استضاقاته بالمفاجآت.. لمحات تمر في خياله كبروقات تلمع لحظة ثم تدلهم. ليتجلى العتم أمامه وكأنه ليل يقفله في صندوق فيستنجد برحمة الله تضيء سواده، وتؤلق روحه بالنور وتبعث فيه القدرة على احتمال كل شيء، ليتوارى في بياض غيومه.
كم هو صعب أن يكون المرء شاهداً على لحظة الاحتضار، عاجز عن فعل أي شيء.. عاجز حتى عن الصراخ أو الاحتجاج، وبلحظة ينتهي وجود هذا الشخص لينتاب كل من حوله الإحساس المر بأن هيبة الحياة قد ضاعت تماماً، وهو الذي لم يكن يوما مطمئناً كما كان حينها، ولم يكن السلام يسكنه كما سكنه حين لفه البياض. كان وجهه وضاءً، بوضاءة وجه رفاقه الذين سبقوه إلى الشهادة، وكان قوياً بقوة صوت الحق الذي دافع واستشهد من أجله.
شادي عيسى.. هذا الشهيد الذي كان استشهاده، وسيبقى كما استشهاد كثيرين من رفاقه وجعاً يقض الخاصرة ويفتح في الذاكرة جرحه العصي على الشفاء، يقابله في الميدان بطل من أبطال سورية الشجعان.. هو المقاتل وسيم عيسى كما كان يوقع اسمه على الفيديوهات التي كان يصورها.. وسيم الذي كان كما كل الشباب في أول ربيعهم، يرسم مستقبل أيامه بسكينة وهدوء، وجد نفسه فجأة في مواجهة واقع لا يمكنه إلا أن يمتثل له، حيث نداء الواجب أقوى من كل النداءات، فأخذ يرتب أوراق تاريخه الجديد ويسجل في صفحات البطولة تاريخاً جديداً لسورية عبر توثيقه بالصوت والصورة للمعارك التي يخوضها رجال جيشنا المغوار.. كان يتقدم رفاقه في الخطوط الأمامية على كل الجبهات، يعمل بهدوء وصمت وثقة عالية بالنفس، وإيماناً بالغاية التي يسعى لأجلها، فكم تعرض لانتكاسات وإصابات كان يتجاوزها بهمة المقدام الذي لا يستكين لجرح، ليرفع من معنويات رفاقه، وظل يعمل جاهداً للدفاع عن وطنه، وكشف الحقيقة بأدوات وإمكانات بسيطة لم تكن أكثر من هاتف محمول وسيرف وصفحته الزرقاء التي كان يوثق فيها كل الحقائق، ويكشف عبرها زيف ما تتداوله وسائل الإعلام المعادية، ليصبح صوتاً مميزاً له حضوره ومصداقيته لدى الناس وكل من يتابعون أخبار المعارك الميدانية.
لكن المصادفة الغريبة أن تتزامن ذكرى عيد الشهداء مع إصابة بليغة تلقاها وسيم أثناء توثيقه لمعركة الجيش في مخيم اليرموك، إصابة أرغمته على الاستسلام لها حيث بترت قدماه، لتبقى هذه الإصابة شاهداً حقيقياً على إقدامه وشجاعته، وشاهداً حياً على بطولات الجيش وانتصاراته التي ستكون عزاءه في مستقبل أيامه.
سورية.. هاهم أبناؤك يخيطون من الغيوم نصراً، ومن أرواحهم يتسلل الضوء حين يمنحونك مجد استشهادهم فيرتقون متدثرين بطهر ترابك.