“بديع جحجاح”.. روحانيات اللون والكلمة
في الطريق الذاهب إلى غاليري “ألف-نون” الذي يديره الفنان التشكيلي “بديع جحجاح”-1973-، والواقع على ضفاف ساحة الشهبندر، تلقي دمشق رأسها بدعة على كتف قاسيون، المشهد يخطف الأنفاس، تبدأ خطواتك في التباطؤ رويدا رويدا، قبل أن تدلف من منفرج الدرج إلى ذلك المكان، حيث عرفت الطبيعة كيف تُهندس جغرافية روحه، لتلهمه جوهره، لا كصالة عرض، بل كمشغل فنان مليء وقته بالعمل، والألوان التي تتماوج على “الباليتا” المدورة، تلك التي راحت ترقص ببراعة سحرية، قبل أن تزيد دورانها رويدا رويدا، لتتماهى انسيابية حركتها، مع دوران دراويش “بديع” الجامدين في عمق اللوحة لوهلة؛ أولئك الدراويش سيبهرونك بعد فسحة من دهشة، بطيرانهم الأخاذ، وكأنهم أرواح تطير مسرنمة، تخرج من تماثيل ولوحات وحروف، لتزور مقام ملهمها “ابن عربي”، كما تزور رفوف العصافير الحقول.
لن تشعر بالوحدة أبدا حتى وإن كنت تجلس وحيدا، على الكرسي في مكتبه، مطلا تارة على حديقة مكتظة بالحبق، وتارة على حديقة معلقة، تصنعها ألوان واحدة من لوحاته، وربما استغرقك الوقت وأنت تتأمل تلك المنحوتة التي تكاد لفرط رهافتها أن تتحرك، بينما الكرسي الذي يجلس عليه “بديع” عادة، يتكئ على مسند ظهره، وشاحه الأزرق، الذي يؤمن فيه كغلاف للروح، بما يوحيه هذا اللون وما يعنيه، لذا فإن السكينة تغلفه كما قطرة المطر تغلف حبة القمح، عندما يرتديه في استقباله ضيوف شغفه، على هامش معرض ما أو حفل توقيع كتاب ما أيضا.
هل ألفة المكان هي من تجعله يدق كقلب بصوت مسموع وخافت؟ فتشعر بحياة تمشي في المكان الفارغ من حضور “بديع”، -ثمة وجوه “تتناوق” عليك لدراويش في لحظة دوران أبدية، دهرية، حادة حينا، وحنونة لينة حينا آخر، حتى أن نظراتها تسلم عليك-، أم أن الحالة الروحية العالية التي تظهر جلية في أعمال الفنان، الذي تربى في حضن جبل يطل على البحر، حيث السماء تضيفه كل يوم فنجان ضوء، هي من تجعله حاضرا في غيابه ولو لثواني قليلة؟.
تمّام علي بركات