“زهور تأكلها النار”.. سِيْرة الخَراب على لِسَان “خَميْلة”
في مدينة افتراضية اختلقها صاحب الرواية في زمن غير الزمن، عاد بها قرناً إلى الوراء يوم كان للأتراك أن أمسكوا زمام الحكم في العديد من البلدان من بينها مصر والسودان، حيث تجري أحداث حكايته ويجيب عبرها على سؤال سارة التي قرأت روايته “توترات القبطي” وشغلها حال المرأة السبية والجارية إذ ركزت الرواية على حال ميخائيل وقد تمت هدايته! يضيف إليها أسئلته هو: من أين أتى هؤلاء المجرمون، كيف تشكلوا ولم يلفتوا الانتباه إليهم، ومن أين لهم هذه القدرة على الاجتذاب، ومن أين أتوا بتلك القسوة والقدرة على القتل؟ من أنتج هذا التخلف وغيرها من التساؤلات. وحيث المدينة المفترضة التي بناها في عمق الصحراء رمال ملتهبة كجمر وريح لافحة مثل نار لا تخمد، وأمداء واسعة تسرح فيها الوحوش البرية، هناك حياة كأي حياة في الكون، بشر من انتماءات مختلفة يعيشون في وئام وحب، يمارسون طقوسهم الخاصة أحراراً.
وهنا تعيش “خميلة” الصبية التي تزهو بسنواتها العشرين إذ هي ابنة تاجر الذرة الغني والسيدة الطليانية التي تهوى الرسم والفنون، أمها التي لم تعرف يوماً ما الذي أغراها بأبيها فتصبح زوجة له في هذا المكان: “لا أعرف لماذا تزوجت “فاليريا اسبرجان ماير” الرسامة الجميلة التي تنتمي إلى أسرة عادية لكنها متحضرة بقبطي من بلد أفريقي بعيد وعشوائي، لن تصل إليه إلا مغامرة على ظهر الإبل، ولن تغادره إلا نادراً سبب المشقة وطول السفر”.
على لسان خميلة ستأتي الإجابة على السؤال “سارة” وتعرض الحال الذي ستؤول إليه بعد أن اندلعت بذور الخراب في القرية المجاورة للسور، لتصبح ثورة باسم الدين، استقطبت إليها شباب المدينة الهادئة، شكلت جماعاتها وعززتها بالقادمين إليها من السور، جهاديون ملثمون يقودهم أمير لم يره أحد قط يدعى “المتقي”، هكذا سيطبق الثوار الحصار حول المدينة الصغيرة، يقطعون عنها كل أسباب العيش، يمنعون الطريق على القوافل فلا تصل إليها، لتقع في النهاية بين أيديهم، يُعملون فيها دماراً وتهديماً، ويستبيحون كل ما فيها باسم الدين.
ستحكي خميلة كيف انتهى بها الأمر إلى سرداب خانق في ساحة المجد، في الوقت الذي كانت تتهيأ للعرس الكبير بعد قصة الحب التي جمعتهما مع ميخائيل الذي سيخبرها مذعوراً وقد ظنت أن أذى لحق بأحد والديها أو والديه:
– إنها مدينة السور يا خميلة، إنه الوطن كله.
ستعم الفوضى ويحل الجشع على “تجار الشبع” الذين يخفون المواد الضرورية للعيش ولن يكون والد خميلة أفضل منهم برغم توسلاتها:”الحرب لها قوانينها يا خميلة” فتبكي كما لم تبك من قبل، ليظل شاغلها سؤال لم تعرف له جواباً، من هم ثوار المتقي، وما نوع ثورته: “كيف نبع فجأة ونبعت فكرته المدمرة، وانضم إليه كل هؤلاء الأتباع الذين وصفوا بالجبروت، وأنهم يتبعونه بتفان لو دخل النار دخلوها، ولو سقط من جبل سقطوا خلفه، ولو مات في أي لحظة.. ماتوا”؟.
هناك في السرداب تجتمع النساء “الزهور التي سوف تأكلها نيران فوضى دعيت ثورة” من جميع الفئات والأعمار يتحدثن كيف حل بالمكان كابوس الثورة الذي أخذ منهن أولادهن وإخوتهن، البعض انضم إليها وآخرون ذهبوا إلى غير رجعة دون أن يُعرف المصير الذي حل بهم، سيحل الخراب بالمدينة وتغرق في البشاعة، وتسبى نساؤها جميعاً ليصبحن من غنائم الثورة ومكافأة المجاهدين، إلا من كان خارج هذا الجنون، نساء كان مصيرها الدفن في بئر الشيطان، بينما الرجال من بوذيين وأقباط وسواهم كانوا حيّاتٍ وجب قطع رؤوسها.
في بيت الغنائم بيت “أم الطيبات” حيث مأوى السبايا ستحمل الفتاة اسماً جديداً لن تطيقه ستكون “نعناعة” إذ لا يليق بمؤمنة أن تحمل اسم خميلة، وفي البيت المذكور تحضير النساء والفتيات ليصبحن عرائس للجهاديين، هنا تقوم على تعليمها الدين الجديد، نساء جهاديات أشد قسوة من الصخر، يهيئنها لتكون عروساً تليق بجهاديّ كبير، لعله المتقي هكذا تفكر في سرّها وهي الأجمل ذات الحسب والنسب، وتحلم وترجو واليأس بدأ يتملكها أن يأتيها ميخائيل ينقذها ويقوم بتهريبها خارج السور كما أتى “باسيلي” الكاتب والمفكر تحت اسم “جمعة العائد” وأنقذ زوجته الحامل “أمبيكا” بعد أن خدع الجميع، ستبكي خميلة كثيراً وتفكر:
“كان الجهاديون ثوار المتقي قساة فعلاً، ومجانين وغوغاء، وأي شيء متأخر في الدنيا لكن ليسوا محصنين ضد أن يستخدم غباءهم قبطي مستنير ويسترد حبيبة سموها سبية أو غنيمة، كانت ستضع حملاً صعباً في بيئة لا تصلح أن يولد فيها مجرد سَخْل”.
وبدل أن يأتي ميخائيل منقذاَ لها وقد أنهت الحارسات إعدادها عروساً للمجهول، سيأتي “لولو” العبد الذي طالما كرهته ويخلصها من الكابوس إلى خارج السور.
كغيرها من الروايات في زمن تفشّت فيه حركات الجهادية امتهنت القتل والعبث بمصائر البشر، كان الإرهاب سِمتها وسِمة رواية أمير تاج السر “زهور تأكلها النار” امتداداً لسابقتها “توترات القبطي” وتأريخاً لفترة من الزمن كان لها أن تشهد الفوضى والخراب وانتهاك كل المحرمات الإنسانية باسم الثورة، من قبل جماعات مختلفة تحمل خصوصية المكان الذي ولدت فيه، قد تكون السور رمزيتها، لكن إسقاطها ممكناً على الكثير من البلدان، ستحظى خميلة بالفرصة للهروب من بين أيدي القتلة لتحمل ذاكرتها إلى الأبد ألماً يدخلها في حالة من الضياع ما بين الحلم والحقيقة الكابوس إذ بقيت نهاية الرواية مفتوحة على احتمالات أن يكون الألم واليأس والتوق إلى خلاصها قد أدخلها حالة من الهذيان لم تخرج منها ولا القارئ أيضاً.
* “أمير تاج السر” روائي سوداني معاصر، وصلت رواياته إلى قوائم جائزة البوكر أكثر من مرة، وحاز على جائزة “كتارا” عن روايته “366” عام 2015، وترجمت رواياته إلى عدد من اللغات، ووصلت روايته هذه إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.
بشرى الحكيم