عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي في أدب الصداقة
صدر عن الناشرَين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر/دار التنوير للطباعة والنشر)، كتاب بعنوان “في أدب الصداقة” وهو عبارة عن مراسلات بين الروائي “عبد الرّحمن منيف”-1933-2004- وبين،الفنان التشكيلي “مروان قصّاب باشي” -1934-2016-وذلك بطبعته الثالثة -2017-؛ الكتاب وفق السطر الأول من التقديم يظهر هكذا: “الرسائل التي بين أيديكم مساهمة في أدب الرسائل”؛ ثم أن المقدمة تستغرق من الصفحة 5 إلى الصفحة 12، ويمكن اعتبارها صوت أدبي ثالث يضاف إلى الاسمين المعروفين، اللذين يحتوي على مراسلاتهما الكتاب، وهذه المقدمة هي استهلال جيد، يهيئ القارئ للبدء بجرعة أدبية عالية المزاج؛ التقديم كتبه د. “فواز طرابلسي” الذي يقول في أسطره الأولى: “هذا النوع الأدبي نهضوي بامتياز، لأنه درج إبان النهضة العربية في مرحلتيها المتأخرة والمتقدمة، ونهضوي أيضا بمعنى النبرة الفردية، والثقة بمفعول الكلمة….الخ”.
لا بد طبعا أن نشعر بالاستغراب، ونحن نقرأ كلاما كهذا، د. طرابلسي، يعتقد كما ورد في مقدمته أن –أدب الرسائل-هو ظاهرة بدأت في مرحلة النهضة العربية، وفي هذا إهمال كبير لتاريخ الأدب العربي، وقد يصل حدّ التجني عليه، وهنا لا بد من تذكيره، وتذكير القراء بالمناسبة، بأن الأدب العربي بدأ كرسائل، وأن الرسائل كانت السمة المميزة لهذا الأدب الرفيع.
إن بيت الشعر العمودي الموزون والمقفى، ما هو إلا رسالة، لا تحتاج إلى الأوراق بل إلى الذاكرة، يقولها الشاعر منذ الفترة الجاهلية، بقصد أن تصل وتتناقلها الألسن؛ الرأي السابق قد يكون عمومي، على افتراض أن الفنون والآداب بشكل عام، تنطبق عليها صفة الرسالة الاتصالية؛ فلنحدد الموضوع أكثر، ولذلك نتوقف مع شاعر جاهلي أشهر من نار على علم، وهو “طرفة بين العبد”-543-569، الذي حمل –رسالة موته- وعندما تعرض للفصد، قال قصيدة شهيرة؛ إن قصة طرفة هي واحدة من تفاصيل –أدب الرسائل- الذي اشتهرت به الثقافة العربية، منذ أقدم الأعمال الأدبية التي وصلتنا.
إننا إذا تجاوزنا مراسلات الخلفاء في بداية الأوان الإسلامي، والخطب المتبادلة بينهم وبين ولاتهم، وقادة جندهم، والتي ترقى لأن تُصنَّف كأدب رسائل، فلا بد أن نتوقف مع رسائل أدبية واضحة وصريحة، لا لبس فيها، وهي من أهم ما عرفته البشرية في تاريخها؛ الأنموذج الأكثر شهرة، هو “رسالة الغفران” لفيلسوف الشعراء “أبو العلاء المعري”-973-1057، وهي عبارة عن عمل أدبي متكامل، ظهر كرسالة ضمن مراسلات عديدة،يردّ فيها على “علي بن منصور الحلبي”-962-1030- المعروف بابن القارح، وكان الأخير قد بعث برسالة إليه، من حلب بعد عودته من مصر، في الوقت الذي كان فيه رهين المحبسين، يقيم في بلدته “المعرة”؛ مراسلات الأديبين الكبيرين، زيادة على العمل الأدبي الرائع، فيها آراء نقدية أدبية عديدة، فعن أي أدب نهضوي يتحدث د.”طرابلسي”؟.
إن المراسلات الفكرية والأدبية بين الشعراء والفلاسفة، لم تنقطع يوما في تاريخ الثقافة العربية، ولا في أي عصر من عصورها، فعندما وقعت نسخة من كتاب “الغزالي”-1058-1111- “تهافت الفلاسفة” وذلك بعد أن سافرت عبر الأزمنة والأمصار إلى الأندلس، بين يدي الفيلسوف المعروف “ابن رشد”-1126-1198- فإنه قام بكتابة ردّ عليها في كتابه الشهير “تهافت التهافت” وقد شكّل ذلك عندئذٍ حوارا فلسفيا ومعرفيا، بين مشرق العالم العربي ومغربه، وغير ذلك فإن مؤلفات أدبية وفكرية عديدة، كانت تحمل تسمية “رسالة” منها على سبيل الذكر وليس الحصر، رسائل أخوان الصفا، رسالة البيان والتبيين “الجاحظ”-776-868-؛ ثقافة المراسلة والتراسل إذا هي من صميم الثقافة العربية منذ العهد الجاهلي وما بعده، وليست مرتبطة بمرحلة ما، فهي لم تصبح دارجة في مرحلة، وكاسدة في أخرى، ولم تنقطع في فترة بعد أخرى، كما كتب صاحب التقديم.
بالانتقال إلى الفقرة الثانية من المقدمة –لم نزل في الصفحة الأولى منها!- وذلك إذا افترضنا أن السطر الأول الذي في رأس الصفحة ليس فقرة، فإننا سنجد ادعاءً من صاحب التقديم كالتالي: “لم تُكتب هذه الرسائل بقصد النشر أصلا، كما هو حال بعض المراسلات الشهيرة عندنا، تقرر نشرها بعد وفاة عبد الرحمن، بمبادرة من سعاد قوادري منيف ومروان”، صاحب التقديم، يقول صراحة، أن هذه الرسائل، مادة الكتاب، عندما تمت كتابتها وتبادلها، لم يكن هذا الفعل بقصد النشر، بل نوع من تبادل الشجون والآراء الفلسفية والجمالية، وبث الهموم بين كل من الروائي والفنان التشكيلي. ولكننا في السطر الرابع من الصفحة 23، نقرأ في رسالة من “عبد الرحمن منيف” إلى “مروان قصاب باشي” التالي: “… لذلك أرجو أن تجيب بأوسع ما يكون من التفصيل، وسوف أحاول الاستفادة من المادة في الكتاب الذي تحدثنا عنه، طبيعي لن ألجأ إلى الطريقة التقليديّة في السؤال، أريدك أن تتكلم بحرية، والأشياء التي ترى عدم نشرها لن تُنشر”، انتهى الاقتباس من رسالة الأديب منيف!.
كما هو واضح من الاقتباس الأخير بما تضمنه من أسئلة مع الأجوبة المتوقعة، هي بقصد النشر، وهناك اتفاق مسبق بين الروائي والفنان على ما يحذفون من تلك المراسلات وما لا يحذفون؛ فمن أين جاء كاتب التقديم بادعاء أن الرسائل لم تُكتب بقصد النشر!.
ما سبق لا بد أن يقودنا إلى افتراض، أن د. “طرابلسي” لم يقرأ الكتاب أصلا، ولا رسائله المتضمنة في صفحاته، وليس من المستغرب، لمن يعتقد أن –أدب الرسائل-قد درج إبّان النهضة العربية، في مرحلتيها المتأخرة والمتقدمة، طبيعي أن يكون من الذين لا يقرؤون عادة.
ما سبق كان عن أول فقرتين من تقديم الكتاب،لكن ما ظهر من مغالطات أدبية وتاريخية، والتي ظهرت في الأسطر الأولى من المقدمة، التي هي روح الكتاب، تجعل تقديم الكتاب ككل يحتاج إلى مادة ثانية، بل ربما مواد.
تمّام علي بركات