النكبة ليست قدراً لا خلاص منه
عبد الرحمن غنيم- كاتب وباحث من فلسطين
في الذكرى السبعين للنكبة في فلسطين، يقف الإنسان العربي متسائلاً ما إذا كان الوطن العربي قد نجح في استجماع قواه بما يمكّنه من مواجهة تلك النكبة، أم أنه على العكس من ذلك بات مهدداً بتعميق تلك النكبة من جهة، ومواجهة مخاطر نكبات ثانية من جهة أخرى.
يأتي هذا التساؤل بطبيعة الحال ضمن ظروف استثنائية يمرّ بها الوطن العربي، وتمتد تأثيراتها أيضاً لتشمل العديد من البلدان الإسلامية المجاورة لهذا الوطن، مثلما يأتي ضمن ظروف استثنائية يمرّ بها العالم بأسره، وتطال هذه الظروف سواء بشكل إيجابي أو بشكل سلبي الوطن العربي، حيث يبدو وكأنّ الصراع الكوني اتخذ من الجغرافيا العربية مسرحاً له.
من السهل بطبيعة الحال أن يقف المرءُ نادباً في هذه الذكرى ما يراه من سلوك غريب لبعض الأطراف العربية التي تحوّلت إلى حليف للكيان الصهيوني بدلاً من محاربة هذا الكيان، أو التي قامت بتطبيع علاقاتها مع هذا الكيان مسلّمة باستمرار وجوده ومتجاهلة لحقوق شعب فلسطين في وطنه ونضاله من أجل استرداد هذه الحقوق. فالمشهد العربي إذا ما نظر إليه نظرة كلية إجمالية ليس بالمشهد الذي يستدعي الرضى أو الطمأنينة، وإنما هو بالعكس من ذلك مشهد يطغى على كثير من الأنظمة السياسية فيه الانهيار الأخلاقي قبل أن يوصف بالانهيار السياسي. ومع ذلك، علينا أن نذكر وأن نتذكر الحقيقة القائلة بأن الزاوية التي ينظر منها المرء إلى الأمور هي الأهم. فالسلوكيات التي نواجهها تجاه قضية فلسطين فيها الكثير مما هو سلبي ولكن فيها بالمقابل الكثير مما هو إيجابي. وهذا الإيجابي ليس بالأمر العرضي أو العابر وإنما هو متجذر في الإرادة أولاً، ويخلق آفاقه الإنسانية الواسعة الخاصة به ثانياً. وحتى ما هو سلبي يمكن أن ننظر إليه من زاوية إيجابية. وفي أبسط الحالات، فإنه من الخير أن نعرف الواقع الذي يحيط بنا كما هو من أن ننخدع بهذا الواقع بحيث نتصور في لحظة ما أن من هو بطبيعته ضدنا يقف معنا ويحسب علينا ويمكننا الاعتماد عليه. فإذا نحن وقعنا في مثل هذا المطب نكون قد أوقعنا أنفسنا في الخديعة، ولن يتسنى لنا اكتشاف المخادع والمنافق إلا حين يحين الجدُّ ونكون في حالة صراع محتدم، فإذا ببعض من ظنناهم معنا ينقلبون علينا ويطعنوننا في ظهورنا، ويظاهرون أعداءنا علينا.
الاكتشاف المسبق للمخادعين والمنافقين
إن وضوح المشهد –مهما كانت قسوته بالنسبة لنا– يبقى أفضل من الوقوع في الخديعة التي نكتشفها متأخرين. ذلك أن الاكتشاف المسبق للمخادعين والمنافقين والضالين يمنحنا عملياً فرصة إعداد القوى والقدرات باستثمار رصيدنا الموثوق به، وهذا ما يجعلنا أشدّ قوة، وما يتفق مع المنطق القائل “ربّ ضارة نافعة”.
وما حدث خلال السنوات الأخيرة، وخاصة منذ بداية العام 2011 دون إغفال المقدمات، لم يكن بالنسبة لقضية فلسطين أمراً عرضياً، ولا كان حرباً خارج إطار الصراع التاريخي بيننا وبين العدو الصهيوني، بل إنه كان على العكس من ذلك تماماً. لقد كان حرباً كونية مدبّرة ترمي إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية كلها بالغ الأهمية والخطورة في وقت واحد. وهذه الأهداف هي التالية:
1– تصفية قضية فلسطين على حساب شعبها مرة واحدة وللأبد، على أن تأتي هذه التصفية عبر سبل ملتوية بحيث لا يشعر المستهدف خلالها بأنه مستهدف. وتلك هي أشد أساليب المكر والنكاية التي يمكن أن يواجهها شعب يسعى إلى التخلّص من الظلم الذي وقع عليه، فإذا به يجد نفسه فجأة وقد صار ضحية ظلم أشدّ دون أن تتاح له حتى فرصة مقاومة هذا الظلم.
2– تمكين “إسرائيل” من التوسع بين الفرات والنيل، وكل ما يتضمّنه هذا الهدف من أساليب تبدأ بتمكين العصابات الإرهابية التكفيرية الضالة المفسدة في الأرض من تدمير المنطقة حول الكيان الصهيوني، وقتل وتشريد أكبر عدد ممكن من المواطنين العرب بهدف إخلاء الأرض من أكبر عدد ممكن من أهلها، وإسقاط وتقويض الأنظمة الشرعية المعترف بها دولياً لحساب إمارات إرهابية يرفض العالم كله بما فيه مصنّعوها الاعتراف بأي سلطة تنبثق عنها، ورسم خرائط جغرافية جديدة محورها إمارات الإرهاب المتصارعة، ومتى أنجز الإرهابيون المهمة المطلوبة منهم في إشاعة الفوضى في المنطقة، تقدّم الكيان الصهيوني ليتخذ من محاربتهم وتخليص العالم من شرورهم ذريعة له لغزو المنطقة وسط تصفيق العالم كله لهذا الغزو، خاصة وأنه سيظهر بمثل هذا العمل وكأنه ينجز ما فشل فيه كل الآخرين بما في ذلك التحالف الأميركي الذي ادّعى محاربة الإرهاب. وهكذا فإن العدو الصهيوني سيرسم من خلال هذا الغزو خريطة جديدة للمنطقة يحقّق فيها كل أطماعه. وبالطبع، فإنه في ظروف من هذا النوع تختلط فيها ملامح المشهد أمام الناس سيكون هدف التخلّص من الفلسطينيين بالقتل والتشريد هدفاً وارداً وممكناً، وتمسي مشكلة الفلسطيني متمركزة حول هدف البقاء أو إيجاد الملجأ البديل لتحلّ كلياً محل مشكلة استعادة الحقوق وفي مقدمتها حق العودة.
3– قيام الولايات المتحدة في غضون ذلك بإدارة حرب استهداف إيران لإعادتها إلى الحظيرة الأمريكية، وربما أيضاً لتقسيمها إلى دول متعددة على أسس أثنية وطائفية بما يضمن للأمريكيين استمرار السيطرة عليها في المستقبل. ولم يخلُ المخطط الشيطاني الصهيوني الذي يقوم الأمريكيون بإدارة تنفيذه من احتمالات استهداف روسيا والصين. وعلى هذا النحو يتكامل الهدف الصهيوني في التوسع مع أهداف الإستراتيجية الأمريكية العالمية في الهيمنة بحيث تظلّ الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على العالم.
حين يتأمل المرء في هذه الأهداف يشعر للوهلة الأولى وكأننا نتحدث عن خطة شيطانية طموحة صعبة أو حتى مستحيلة التحقق، ولكن قليلاً من التفكير والتمعّن وتقييم التجربة التي مررنا بها يكفي للاستنتاج بأنه لو نجح من وضعوا خطة ما سُمّي بالربيع العربي في إنجاز الهدف المتمثل بأخذ سورية لكان هذا المخطط الآن قد جرى تنفيذه بالفعل كلياً أو جزئياً وفق ردود أفعال الأطراف المستهدفة من وراء هذا المخطط، والتوقيت الذي تتحرك به هذه القوى، وهل يأتي في حينه أم بعد فوات الأوان.
يكفي أن نقول في هذا السياق إن المخطط كان قائماً في الأساس على فرضية الانفراد بسورية والتمكن منها، وأن احتمالات اعتراض أو تدخل الصين أو روسيا على الخط لن تكون واردة إلا حين يفرغ المخطط من السيطرة على سورية وينتقل لاستهداف إيران، بمعنى أن أصحاب المخطط الشيطاني افترضوا أن احتمالات التدخل الصيني أو الروسي ستكون واردة فقط حين ينتقل الخطر إلى حدود روسيا، وحين يتواجد الإرهابيون بكثافة بجوار تلك الحدود أو داخل أراضي الجمهوريات المستقلة في القوقاز بما يمسّ أيضاً بأمن الصين إلى جانب أمن روسيا.
إن الصمود السوري أولاً، والفيتو الروسي– الصيني المشترك المتعدّد في مجلس الأمن بعد المعاناة من التدخل الغربي في ليبيا وما نجم عنه ثانياً، ثم تلمّس أطراف محور المقاومة في لبنان وإيران وفلسطين للخطر الذي يستهدف الجميع من خلال استهدافه لعمود خيمة المقاومة متمثلاً بسورية ثالثاً، وإدراك روسيا لحقيقة ما يدبّر لها من خلال استهداف سورية ومن بعدها إيران وقرارها بالانغماس في محاربة الإرهاب قبل أن يغزوها من جديد رابعاً، كل هذه كانت من أهم المعطيات التي أسهمت في تحقيق الانتصار على المخطط الشيطاني ودحر أدواته. وبالتالي، أحبطت جملة الأهداف المرسومة من قبل أصحاب المخطط سواء تلك التي شرعوا في محاولة تحقيقها بالفعل أو ما كان منها مضمراً.
وهنا، ولكي نكون منصفين أيضاً وواضحين في رسم صورة الصراع والأطراف التي أسهمت فيه بشكل إيجابي، لا بد لنا من القول بأن استهداف سورية والعراق معاً بواسطة تنظيم “داعش” وبتدبير أمريكي، كانت الغاية منه عدا عن قيام “داعش” بالدور المطلوب منها في نشر الفوضى، إيجاد حاجز على الأراضي السورية والعراقية يفصل بين العراق وسورية، كما يغلق السبيل أمام التواصل بين إيران وسورية براً. ولنضف إلى ذلك ما هو معروف من محاولات “داعش” للتواجد على حدود إيران الغربية ليتكامل هذا التواجد مع الخلايا الإرهابية التي جرى تجنيدها في منطقة كردستان العراق على حدود إيران أيضاً، إضافة إلى تلك التي أوجدت في تركيا على حدود إيران. أي أن التهيئة للانتقال من استهداف سورية بشكل رئيسي إلى استهداف إيران كانت جزءاً من الخطة الشيطانية التي يجري تنفيذها على الأرض، وهذا التحدّي هو الذي دفع بالقوى الحيّة في العراق إلى العمل على مواجهة “داعش” والإجهاز عليها، فكان الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في العراق من بين تلك القوى التي أسهمت في الحملة على “داعش”، وهو ما تكامل مع دور الجيش السوري والقوى الحليفة والرديفة في محاربة “داعش” وصولاً إلى إحباط المخطط الرامي إلى عزل العراق عن سورية.
وعدا عن الدور الذي لعبته القوى الوطنية والمقاومة في العراق بمواجهة المخطط الشيطاني وأدواته، كان الواقع اليمني يفرز قوى مهيّأة لمواجهة المخطط الشيطاني. وبرزت ظاهرة تطوع الشباب اليمني للقتال في سورية ضد العصابات الإرهابية. ومن الواضح أن هذه الظاهرة بالإضافة إلى محاولة قوى التآمر للسيطرة على باب المندب في نطاق السعي لمحاصرة إيران بحراً من اتجاه البحر الأحمر بعد محاولة محاصرتها براً من اتجاه العراق، هي من بين الدوافع الكامنة وراء شنّ الحرب العدوانية على اليمن من قبل تحالف يقوده النظام السعودي المتورط في تنفيذ المخطط الشيطاني الصهيوني، على أمل أن يتمكّن المعتدون من السيطرة على اليمن وتحقيق جانب من أهداف المؤامرة الكبرى التي ينخرطون في تنفيذها.
حين ننظر إلى الأمور على هذا النحو الواضح والجليّ نكتشف أن الحرب على سورية وفي سورية لم تكن مجرد حرب على سورية وفي سورية، بل كانت حرب فلسطين وحرب مصير العرب أجمعين، مثلما كانت حرباً على القوى الإسلامية والإنسانية الرافضة للهيمنة الامبريالية والصهيونية. إنها حربٌ كونيّة سواء في بنية القوى المتورطة فيها أو في بنية القوى المستهدفة من ورائها، وإن كانت فلسطين أو سورية التي هي أم فلسطين هي المستهدفة بشكل فوري ومباشر.
وإذا كان هناك من سبب حال دون تطور تلك الحرب الكونية إلى ذلك المستوى الأوسع الذي يمكن أن نتوقعه في مثل هذه الحالة، فإنه يتمثل في سبب أساسي واحد، وهو أن أصحاب المخطط الشيطاني كانوا حريصين وهم يرسمون هذا المخطط على أن يجنّبوا الكيان الصهيوني بالذات مخاطر الحرب، وخاصة في مرحلتها الأولى. فأصحاب المخطط الشيطاني وضعوا مخططهم أساساً وفق حسابات دقيقة يكون فيها الآخرون هم وقود الحرب، ويكون فيها الصهاينة هم من يقطفون ثمار الحرب في نهاية المطاف، وذلك دون أن يدفعوا ثمن هذه الحرب من حياة الجنود والمستوطنين الصهاينة الذين يراد لهم أن يكونوا الوارثين للأرض، بل والمهيمنين على العالم بأسره.
لقد كان مطلوباً من المرتزقة ومن الإرهابيين التكفيريين المجلوبين من كل بقاع الأرض أن يمهدوا الأرض أمام الكيان الصهيوني، وأن يوجدوا الواقع الذي يجعله قادراً على تحقيق أهدافه حتى باستهدافهم هم أنفسهم لاحقاً دون أن يعترض سبيله أحد. وبذلك يكون قد صنع بيده، ووفق المقاييس التي يجدها ملائمة لخطته، القوة أو القوى التي تنوب عنه في استهداف المنطقة، ومتى ما تمكنت هذه القوى من تحقيق الأهداف المحددة لها، يتدخل هو بذريعة تخليص العالم منها، وهو يعرف كل مكامن الضعف في بنيتها وكيفية إبادتها أو التخلّص منها حتى ولو تطلّب الأمر استخدام أسلحة الدمار الشامل، مثلما صرّح كيسنجر في لحظة ما مع بداية تنفيذ الخطة الشيطانية مطمئناً إلى نجاح تلك الخطة. وبتعبير آخر، فإنه كما أن أمريكا أوجدت “داعش” وأقحمتها في الصراع بينما ذهبت وزارة الخارجية البريطانية مباشرة إلى مجلس الأمن الدولي بمشروع قرار يقضي بمحاربة “داعش” كمنظمة إرهابية بغية تبرير تدخل التحالف الأميركي في الصراع بحجة محاربة “داعش”، فإن المخطط الشيطاني كان قائماً على قاعدة تصنيع الإرهابيين والمرتزقة بمختلف أنماطهم وتشكيلاتهم، واستثمارهم في إشاعة الفوضى في كامل المنطقة، حتى إذا ما نجحوا في تحقيق ما هو مطلوب منهم، وبدا أن جميع القوى الإقليمية والدولية قد فشلت في إلحاق الهزيمة بهم، وأنهم باتوا يهدّدون أمن وسلام العالم انطلاقاً من المنطقة العربية، تدخل العدو الصهيوني بذريعة محاربتهم لينفذ ما سمّاها كيسنجر بـ”البطشة الكبرى”، ومن خلال هذه البطشة الكبرى حقّق هدفه في التوسع بين الفرات والنيل.
وهكذا نفهم أن من كان يُعدُّ للبطشة الكبرى قد فشل في تنفيذ خطته، وأن من كان يهيّئ لتحويل نكبة فلسطين إلى نكبة كبرى للعرب أجمعين وليس للفلسطينيين وحدهم، قد فشل في صنع النكبة الكبرى. وإن فشل العدو في تحقيق هذه الغاية يعني هزيمة مخططه الشيطاني، ولكن الأمر لا يقف عند حدود الهزيمة تلك، ذلك أن هناك أموراً أساسية كبيرة تحقّقت من خلال الصراع على سورية وفي سورية، وعلينا أن ننظر إلى هذه الأمور بتمعن لنعرف أي تطور هائل حدث في مجرى الصراع، ولندرك التأثير العملي لهذا التطور على الصراع العربي– الصهيوني وعلى قضية فلسطين، وعلى مستقبل الأمتين العربية والإسلامية، بل ومستقبل البشرية جمعاء.
لقد أراد أحد الكتّاب الغربيين مؤخراً أن يعقب على وجهة نظر الرئيس الأميركي ترامب حول ما سمّاها بالمهمة في سورية لتبرير العدوان الثلاثي بذريعة السلاح الكيماوي، فكتب في صحيفة “الفاينانشيال تايمز” قائلاً إن هناك خمس قضايا يجب على الساسة الأوروبيين التفكير فيها، وهذه القضايا –حسب زعمه– تتمثل بما يلي: الأسلحة الكيميائية!!- مصير سورية- مستقبل الشرق الأوسط– روسيا– وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم.
بالطبع كلنا نعرف أن فزاعة “الأسلحة الكيميائية” ما هي إلا الغطاء الأوروبي للهزيمة التي لحقت وتلحق بالعصابات الإرهابية ومحاولة الغرب لتقوية معنويات هذه العصابات بعد أن أخذت تنهار وحاقت بها الهزائم. وبالتالي، فمن الأفضل أن يكون البند الأول متعلقاً بمصير العصابات الإرهابية والمرتزقة، وأما مصير سورية فيعرف الجميع أنها بانتصارها على الإرهابيين تتجاوز ما كان مرسوماً لها وللوطن العربي من مصير، لكن الأمر الأهم بحسابات الصراع أنها رغم ما بذلت من تضحيات ورغم ما ألحقته بها الحرب الكونية من الخسائر، إلا أنها خرجت من الحرب أقوى مما كانت قبل هذه الحرب. وبالطبع، فإن فشل المخطط الشيطاني في التمكن من سورية جنّب ما تسمّى بمنطقة الشرق الأوسط ما كان مرسوماً لها من استهدافات دامية مدمّرة، وحال دون تمكين العدو الصهيوني من تنفيذ بطشته الكبرى المضمرة للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط. وفي ضوء هذه النتائج تكرّس دور محور المقاومة في الصراع حيث خرج منتصراً وأشد قوة، كما أن الإسهام الروسي في الحرب على الإرهاب ومن خلال الساحة السورية نفسها، قاد إلى تعاظم دور روسيا في العالم وكذلك دور الصين ودول أخرى عديدة تشترك معاً في رفض الهيمنة الأمريكية. وهذا كله يقود إلى النقطة الأخيرة المتمثلة بوضع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، فقد تراجع هذا الدور تراجعاً كبيراً ملموساً، وبرزت حقائق ومعطيات تؤكد وجود توازن دولي جديد.
وهكذا يمكن القول ببساطة متناهية: إن عالم ما بعد الحرب الكونية على سورية هو غير عالم ما بعد الحرب الكونية على سورية، ومن ثم فإن وضع قضية فلسطين بعد هذه الحرب هو غير وضعها بعد هذه الحرب، ووضع نكبة فلسطين قبل هذه الحرب هو غير وضعها بعد هذه الحرب.
لقد جرّب العدو قواه لأخذ المنطقة كلها بل والعالم كله باتجاه تمكينه من تحقيق حلمه التوسعي، لكنه مُني بالفشل الذريع، وفشلت الأدوات التي اعتمدها في الصراع في تمكينه من بلوغ غايته، وبالطبع فإن فشل هذه الأدوات ومن بينها إلى جانب الإرهاب التكفيري والمرتزقة وسائل التضليل الإعلامي الذي استُغل على أوسع نطاق، إضافة إلى استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في إدارة اللعبة، عدا عن قائمة طويلة من عوامل الضغط والتآمر على مستوى خريطة العالم كله، ولكنها جميعاً لم تفلح في إيصاله إلى غايته، ولم تجنّبه في نهاية المطاف اختبار القوة الذي ينبئ بتراجع قدرة هذا الكيان في مواجهة أصحاب الحق من عرب فلسطين ومن يقفون إلى جانبهم من العرب والمسلمين والبشر الطيبين.
إن الحقيقة التي يجب أن ننتبه إليها الآن هي أنه إذا كانت النكبة قدراً لا يرجع وقوعه فقط إلى العوامل الموضوعية التي أحاطت بالأوضاع العربية زمن وقوع النكبة، وإنما هي أيضاً قدر جاء النص عليه في قوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء “وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً”، فكانت النكبة من مظاهر الإفساد الثاني، فإن هذا القضاء قد اقترن أيضاً بوعدٍ إلهي لنا بالانتصار يتمثّل في قوله عز وجل عمّن أنهوا الإفساد الأول “فإذا جاء وعدُ الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علوا تتبيراً”.
إن انتصار سورية وحلفائها على المخطط الشيطاني بكل أبعاده وملامحه، وما شهدته ساحة الصراع خلال الأسابيع الأخيرة من تطورات، إنما هو المؤشر العملي على أن وعد الآخرة قد دخل مرحلة التحقق. فالنكبة في فلسطين، وإن كانت قدراً مرسوماً، إلا أن هذه النكبة كانت وستبقى أهم العوامل المحرّضة على تحقيق الانبعاث في وطننا العربي، وفي بناء القوى والقدرات التي تمكننا من تحقيق وعد الانتصار الناجز.