حول الصراع الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني
د. منير شفيق- كاتب وباحث من فلسطين
ثمة مشكلة دائمة في تقويم محصلات الصراع بين الشعب الفلسطيني والمشروع الصهيوني، وتتمثّل هذه المشكلة في نقد النضالات الفلسطينية منذ نشأة الصراع ما بين 1918- 1948، ومن 1948 حتى اليوم، وقد تقاطع اتجاهان متناقضان من حيث الأهداف والمرامي، وكان التقاطع على نقد النضال الفلسطيني والتبخيس من شأنه أو تخطيئه، فالاتجاه المرتبط بالسياسات الغربية أو بسياسات أنظمة عربية مشتقة أو ممتدة من السياسات الغربية دأب على اعتبار كل نضال فلسطيني، ابتداء من الكفاح المسلح: “ثورة، مقاومة، مواجهات”، مروراً بالنضالات الشعبية: “إضرابات، تظاهرات، انتفاضات”، وانتهاء بالتشبث بالثوابت والحقوق الأساسية، مجرد نضال عبثي لا طائل تحته أو منه، أما الدليل فقد استند إلى نتائج حرب 1948، أي إلى ما سمّي بنكبة فلسطين: إقامة الكيان الصهيوني، ما يسمى “دولة إسرائيل”، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني في حينه من مدنهم وقراهم وبيوتهم، والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم ومساكنهم عنوة واغتصاباً، أما الاتجاه الوطني والعروبي المتمثّل بالأحزاب وبعدد كبير من النخب ما بعد 1948، وصولاً إلى يسار مرحلة الثورة الفلسطينية 1965، فقد جلد الحركة الوطنية الفلسطينية التي قادت النضال ما بين 1918- 1948 بسياط لاهبة لم ترحم، فتارة استند إلى أن قياداتها عائلية أو “إقطاعية” أو “جاهلة”، وطوراً عدم توفر قيادات ثورية وجذرية، لا تساوم، مضافاً إلى كل ذلك تناول عدد من الأخطاء التفصيلية في معالجة مواقف مهمة، ودعك من إدخال المرجعية الفكرية أو التقدمية سبباً آخر، لنضع جانباً التفريق بين الأهداف والمرامي وراء كل اتجاه، ولنقل، على أهميته المبدئية، وننظر إلى موازين القوى التي حكمت الوضع الداخلي في فلسطين “الانتداب البريطاني والسيطرة بمئة ألف جندي على شعب كان تعداده عام 1918 حوالي 750 ألفاً، وفي عام 1948 كان تعداده مليوناً ونصف مليون تقريباً”.
أما الوضع العربي فقد كان خاضعاً للسيطرة العسكرية البريطانية والفرنسية المباشرة بمعظمه، في ظل تجزئة إلى 22 قطراً، وقد كبّل بمعاهدات وقواعد عسكرية من نال استقلاله منها في منتصف الأربعينيات، أي كان الوضع العربي كله تحت السيطرة ومكبلاً تماماً، ثم تشكّل إجماع من الدول الكبرى في إصدار قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لعام 1947، الأمر الذي جعل حدوث النكبة “التهجير وإقامة دولة إسرائيل”، بالإضافة إلى ما أشير إليه من احتلال بريطاني لفلسطين، ومن سيطرة على البلدان العربية، أمراً محتوماً بما ليس له علاقة بطراز القيادة الوطنية أو النضالات والثورات وألوان المقاومة الشعبية ما بين 1918- 1948.. ويا حبذا لو عزز أحد حجته في نقد تلك القيادة من خلال الإثبات أنه لو وجد مكانها لينين أو ماو تسي تونغ أو هوتشي منّه أو صلاح الدين الأيوبي أو العز بن عبد السلام، أو من شئت من قيادات الثورات وحركات التحرير المنتصرة، ماذا كان سيعمل في تلك المعادلة ليحول دون تنفيذ المخطط البريطاني– الدولي في إقامة “دولة إسرائيل”، وفرض التهجير على الفلسطينيين، وهو التهجير القسري الذي لا يمكن أن تقوم دولة الكيان الصهيوني من دون فرضه، طبعاً لا يعني هذا أن القيادة الوطنية الفلسطينية كانت على أفضل ما يرام، أو لم ترتكب أخطاء، وإنما المقصود أن من الظلم تحميلها، أو تحميل أخطائها أية مسؤولية في النتيجة التي فرضت على فلسطين في ظل موازين قوى داخلية وهيمنة غربية على العرب والمسلمين.. حقيقة لا قيمة لأي نقد ما لم يقم على أساس التقدم ببديل قيادي أو نضال سياسي أو شعبي أو مقاومة، يثبت أنه كان يستطيع إحباط مشروع إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين في ظل موازين القوى التي كانت سائدة ما بين 1918- 1948 فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، لا شك في أن هنالك مسارات تاريخية في مراحل معينة وبلاد معينة، وموازين قوى معينة تحمل سمة الحتمية التاريخية، كما لا شك في أن هنالك مسارات تاريخية، وهي كثيرة، في مراحل معينة، وبلاد معينة، وموازين قوى معينة تحمل أكثر من خيار في مسارها ومآلاتها تبعاً لنمط القيادات التي تتحكم في الصراع الدائر، على الجانبين، أو مختلف الجوانب والأطراف وما يتخذه الصراع من خيارات في أساليب النضال المتعددة. بل إن مآلات المسارات في تاريخ الشعوب لا يمكن أن تعزا إلى حتمية تاريخية، فالحتمية التاريخية في قراءة التاريخ عموماً، كما ما يُسمّى بأن التاريخ يُعيد نفسه، نظريتان خاطئتان تماماً، لكن هذا لا يعني أن ثمة حالات يمكن حصرها في بلد محدد، وفي قراءة مرحلة تاريخية محددة، لم يتخذ مسارها طريقاً حتمياً من حيث نتائجه ونهاياته. ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحتمية هنا لا تشمل التفاصيل والتعرجات، وإنما من حيث الاتجاه العام أو في محصلته النهائية، ومن ثم يصبح النقد والتقويم يحمل سمة الخصوصية الجزئية والتفصيلية بعيداً عن التأثير في الاتجاه العام اللاحتمي، كما هو الحال بالنسبة إلى القضية الفلسطينية ما بين 1918- 1948.. ثمة حجة واهية استخدمها البعض، وما زال كثيرون يروّجون لها، وهي الموقف الفلسطيني والعربي من قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947.. تقول هذه الحجة: لو وافق الفلسطينيون على قرار التقسيم بالرغم مما حمله من إجحاف بحقهم لقامت لهم دولة على 46% من فلسطين، ولما هجّروا من مدنهم وقراهم، كما حدث في حرب 1948 نتيجة رفضهم لقرار التقسيم.. إن الخلل في هذه الحجة، فضلاً عما حملته من تنازلات مبدئية تتعلق بثوابت الحق الفلسطيني والقضية الفلسطينية يتمثّل في كونها لم تأخذ في حسابها أن الكيان الصهيوني ومن وقف وراءه من دول كبرى، ما كان لينفذ قرار التقسيم لو قبل به الفلسطينيون، فهو أولاً لم يعترف بقرار التقسيم بالرغم من أنه استند إليه من ناحية منحه إقامة دولة الكيان الصهيوني: فقط، كما نصّ إعلان تلك الدولة، وهو ثانياً لا يستطيع إقامة دولته على 54% من فلسطين كما نصّ قرار التقسيم، وهذه الـ 54 %، 48% من سكانها هم من الفلسطينيين العرب، ولأن 90% على الأقل من أراضيها ملكية فلسطينية عربية، ولهذا كان سيفتعل أية مشكلة ليعلن الحرب من أجل تهجير سكانها، ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم، والتوسّع لتمتد سيطرته على 80% من فلسطين على الأقل، وبهذا كان قبول الفلسطينيين لقرار التقسيم سينتهي حتماً إلى النتيجة نفسها أو ما يقرب منها، ولكن مع إعطاء شرعية لقرار التقسيم المخالف للقانون الدولي ولميثاق هيئة الأمم المتحدة، كما إعطاء شرعية لقيام “دولة إسرائيل”. وهي غير شرعية من وجهة نظر القانون الدولي حتى هذه اللحظة، وذلك لحصره حق تقرير مصير فلسطين بالشعب الفلسطيني الذي كان يسكن البلاد، كما لاعتباره كل تغيير ديمغرافي من قبل الاستعمار للبلد المعني مخالفاً للقانون الدولي كذلك، وهو ما ينطبق على الهجرة والاستيطان اليهوديين لفلسطين ما بين 1918- 1948.. وإذا كان جوهر الصراع في فلسطين قام ويقوم على أساس من له الحق في فلسطين، ومن يمتلك شرعية الوجود فيها وتقرير مصيرها، فإن مسألة عدم الإقرار من جانب الفلسطينيين بأية شرعية لإقامة “دولة إسرائيل” في فلسطين، في عام 1947 وقبله وبعده والآن ومستقبلاً، تشكّل القضية المركزية والأساسية، ولهذا كانت الموافقة على قرار التقسيم، بالرغم من لاجدواها عملياً، تمثّل خللاً مبدئياً يمسّ جوهر الصراع، وهو ما لا يجوز الإقدام عليه سابقاً أو حالياً أو مستقبلاً.