دور غير فاعل في مسارات التفوق الدراسي والاتزان السلوكي الإرشـــــاد النفســــي والاجتماعــــي.. حضـــور متواضـــع فــي زحمــــة التحديـــــات..
تؤدي الحروب والكوارث والنزاعات بالأطفال إلى مواجهة ضغوط كثيرة، ومشكلات في التعلّم، وصعوبات في علاقاتهم مع الآخرين، وتغيرات في مشاعرهم وانفعالاتهم وسلوكهم نتيجة اختلال نظام حياتهم، وتقطع العملية التربوية، لذلك لابد من توفير أعلى حد ممكن من البيئة الآمنة بتوفير التواصل، والإصغاء، واللعب، وبناء تقدير الذات، وأنشطة التفريغ الانفعالي، ومن أجل كل هذا فإن قضية الدعم النفسي والاجتماعي يجب ألا تكون مؤقتة، بل دائمة الحضور، ولكن من الممكن أن تأخذ حيزاً أكبر في حضورها المدرسي في فترات الحروب والأزمات.
حاجة وضرورة
تحدثت رئيسة دائرة بحوث تربية دمشق الهام محمد عن تجربة الإرشاد النفسي والاجتماعي في المدارس، والتي بدأت بين عامي 2000- 2001 عندما صدرت أول مسابقة كانت تخص المرشدين النفسيين، خريجي علم النفس أو التربية حصراً، وخريجي علم الاجتماع للمرشدين الاجتماعيين، ومن ثم، وانطلاقاً من الإيمان بأهمية هذا الاختصاص لبناء جيل متوازن نفسياً، ومنسجم مع مجتمعه، تم استحداث قسم خاص للإرشاد النفسي في كلية التربية، يستطيع الطالب من خلال سنوات دراسته الخمس فيه أن يطلع على أهم النظريات، وبالتالي يتمكن من امتلاك الخبرات والمهارات، ما يهيئ له الظروف الملائمة لممارسة عمله بكل حرفية ومهنية، ولذلك تقوم وزارة التربية بمتابعة وتقييم عمل المرشدين الموزعين على مدارسها من خلال جولات يقوم فيها موجهون لمتابعة عملهم، ووضع الملاحظات اللازمة، وأردفت محمد بأن المرشد يبدأ عمله برصد الظواهر الأكثر تواجداً في المدرسة، ثم يقوم بتوثيقها، ويضع خطة إرشادية لتطبيقها خلال السنة الدراسية بالتعاون مع الإدارة، وتتخلل هذه الخطة ثلاثة جوانب: وقائي، ونمائي، وعلاجي، كما أن هناك جزءاً في الخطة يسمى الخطة المرنة كحدوث أمر طارئ، كتفجير أو ما شابه، خاصة أننا في حالة حرب، وهنا نستطيع تعديل الخطة بما يتلاءم مع الظرف، والأمر الملح اليوم الذي فرض نفسه هو تعليم الأطفال تقبّل الآخر، خاصة من اضطرتهم ظروف الحرب لمغادرة منازلهم أو مدنهم، واحترام آراء بعضهم، ومساعدة زملائهم في المدرسة، ما يساهم بتقوية مشاعر المحبة بينهم، فاليوم المدرسة الواحدة أصبحت تضم خليطاً يمثّل كل شرائح المجتمع السوري، ومن كل المحافظات، وهذه كانت إحدى المشاكل التي واجهناها في بداية الحرب، كصعوبة تقبّل الأطفال لبعضهم، وبالتالي عدم احترام آرائهم، والعنف الذي ازداد بسبب الحرب، وتعددت أشكاله كالعنف اللفظي والجسدي، ما جعل التوجه في تعديل الخطة الموضوعة يتناسب مع المستجدات، ومن ضمن الأمور المهمة جداً التي كانت في الخطة تعليم الأطفال الحماية الذاتية، والتعامل مع مخلفات الحرب، لذلك تم تدريب المرشدين على دورات في وزارة التربية لتطبيقها في المدارس، وتدريب الأطفال على الإجراءات التي عليهم القيام بها في حال حدوث أمر كنزولهم إلى قبو المدرسة، وعدم التدافع على سبيل المثال لا الحصر، وهنا الوعي المتقدم من قبل الجهاز الإداري في المدرسة لأهمية وحساسية الدور الذي يقوم به المرشد يلعب دوراً كبيراً في بناء شخصية متزنة للأطفال، وبالتالي هي مسؤولية متكاملة، ولكل منهم دوره الحيوي فيه.
الأحكام المسبقة
ربما الإرشاد الاجتماعي في مجتمعنا مقبول أكثر من الإرشاد النفسي، فهناك موقف سلبي من الإرشاد النفسي، وهو موقف اجتماعي بيئي من خلال الفهم الخاطئ للعائلات والأسر عن هذا الأمر المهم جداً.
لا يدرك معظم الأهالي أهمية خضوع أطفالهم لمرشد نفسي، مستندين إلى عادات اجتماعية معينة، وبالتالي المجتمع غير متصالح مع هذا الأمر، ويحتاج للكثير من الجهد والعمل لتقبّل وفهم ماهية وعمل المرشد النفسي حتى تتكامل الأدوار بين الأهل في المنزل، والمرشد النفسي في المدرسة.
البيئة المدرسية
المدرسة، حسب رأي “الدكتور في كلية التربية بجامعة حلب حليم أسمر”، ليست فقط للتعلّم، ويجب أن تنتقل لمفهوم جديد لمعنى الواقع والتنمية، والعلاقة مع الآخر، وملاحظة الفروق الفردية، إذاً يجب أن تكون للاستمتاع بالحياة أيضاً، ومن الضروري أن يشعر فيها الطالب بالطمأنينة، وأن يكون موقفه منها إيجابياً تمنحه الأمن النفسي، ولذلك فإن تركيز الجهد الآن، وبسبب الحرب، يجب أن يكون أكثر فاعلية لإعادة النظر بمعنى المدرسة، والعلاقة بين الطالب والمدرسة، لأنه من دون طالب لا توجد مدرسة بالتأكيد، ونحن عموماً نؤمن بالتربية التكاملية، تربية الجسد والروح والنفس، لذلك ليست فقط الدروس هي من تنمي وتصقل الشخصية، بل أيضاً يجب مراعاة جانب الأنشطة المدرسية، والرحلات، والمنتدى المدرسي، والصحافة المدرسية، بالإضافة إلى الإعلام التربوي، والمعارض المدرسية، وهنا نلاحظ أن تطوير المناهج يراعي هذا التكامل من أجل تحقيق التنمية المتكاملة، واستثمار هذا التكامل لاحقاً، بحيث يكون المخرج المدرسي من مرحلة إلى مرحلة أعلى إيجابياً، لذلك علينا ألا نركز على جانب، ونهمل الآخر، “الرياضي التنموي، الموسيقا، الفن والفنون”، كلها هامة حتى نبني شخصية طالب أو تلميذ نامية وناضجة انفعالياً، وبالطبع هذا يحتاج إلى وقت وجهد لتحقيق الهدف المنشود.
في ظل ظروف الحرب
تعقدت المشكلات النفسية التي من الممكن أن يعاني منها الأطفال، خاصة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى ما أفرزته الحرب من عنف أثر على تكوين شخصية سوية ومتزنة عند معظم الأطفال، وهذا ما نلاحظه اليوم بوضوح، لذلك فإن وجود المرشد صاحب الشخصية القوية والمتمكنة من أدواتها، والتي يمكن أن تجمع جميع الأطفال على اختلاف طباعهم، هو الأهم، فهناك عدد كبير من الأطفال ليس لديهم أدنى فكرة عن وجود المرشد النفسي أو الاجتماعي في مدارسهم، وهذا ما تم لمسه من خلال سؤال تم طرحه على مجموعة من الطلاب بأعمار مختلفة، ومن مدارس متنوعة، عن اسم المرشد المتواجد في مدرستهم، وهنا كان الجواب الصادم من قبل الطلاب (شو يعني مرشد)، أحد الطلاب في الصف السادس أجاب بداية بأن المرشد (هو تبع الأسنان)، وهنا يقصد من يقوم بمتابعة الصحة الفموية لديهم، أما لوليا، طالبة في الصف العاشر، فقالت إنها في البداية لم تكن تعلم ما هو العمل الموكل للمرشدة في مدرستها إلا بعد أن شاهدت مسلسل أشواك ناعمة الذي عرفها على دور المرشدة في المدرسة، مضيفة: كنت أتمنى لو أن مرشدتنا تقوم بعملها كما صوّره المسلسل، لأننا في هذه المرحلة من حياتنا نحتاج لشخص واع، ولديه خبرة في الحياة نضع ثقتنا به.
مما لا شك به أن هناك الكثير من المرشدين النفسيين والاجتماعيين يقومون بعملهم، ولكن هذا لا يمنع أيضاً من وجود عدد لابأس به من المرشدين الذين يتحمّلون مسؤولية عدم تقديم أنفسهم بالطريقة الصحيحة والضرورية، أو أنهم لا يرغبون بالقيام بعملهم الذي يتوجب عليهم فعله.
فهمية خضور، مرشدة اجتماعية في إحدى مدارس دمشق، تتحدث عن تجربتها قائلة: إن النقطة الأهم في عملنا هي كيفية بناء حوار مجد بين المربي والطفل، وضرورة أن يكون بعيداً عن التقريع والإهانة، والإحاطة باهتمامات الطفل ومستلزماته، وتوفيرها بالحد المعقول والممكن، فالسلبيات متعددة في هذه المرحلة العمرية، حيث المشاعر الطبيعية تنتج في السنوات الأولى، وهي تعتبر أخطر وأهم السنوات على الإطلاق، لذلك من الضروري احتواء الطفل، والإصغاء له، مضيفة بأن إحدى المشكلات التي كان يجب معالجتها هي حالة النشاط الزائد عند مجموعة من الأطفال في المدرسة، فبدأت من خلال ما يسمى باستمارة الإرشاد الجماعي، بجمع هؤلاء الأطفال من خلال جلسة نقاش تحدثوا فيها مع بعضهم، ومن ثم قاموا بإيجاد حلول لمشاكلهم، وتم وضعهم ضمن لجنة انضباط في المدرسة، وتوزيع مهمات عليهم، كالمحافظة على النظافة، ومساعدة الأطفال الجدد، وتكليفهم برسم لوحات في البيت تتضمن حالات مختلفة عن العنف، كل ذلك لتفريغ حالة النشاط الزائد لديهم، واستثمارها في أمور مفيدة، ولتشجيعهم وتحفيزهم على تحسين سلوكهم، تم وضع صورهم وأسمائهم على لوحة جدارية في المدرسة ضمن قلوب ملونة، وشكرهم أمام جميع الطلاب، ما زاد في ثقتهم بأنفسهم، هذه كانت إحدى الطرق المفيدة لمعالجة حالة النشاط الزائد لديهم.
تحدثت خضور عن نقطة مهمة جداً، وهي تأثر بعض الأطفال بالألعاب التي تتواجد على شبكة الأنترنت مثل لعبة مريم الشهيرة، وكيف تعاملت مع حالتين لطفلين في مدرستها دفعهما الفضول لاكتشاف هذه اللعبة، وما سببته لهما هذه اللعبة من حالة نفسية سيئة، وكيف تمكنت المرشدة بالتعاون مع الأهل من معالجة هاتين الحالتين، وتخطي الطفلين الوضع السيئ الذي عانا منه سابقاً، ليتبيّن لنا بشكل جلي الدور المهم والحيوي للمرشد النفسي والاجتماعي في مدارسنا، وضرورة اطلاعه، وامتلاكه للخبرات، وسعة المعرفة، والصبر، ربما تقييم المرشد الناجح نستطيع قياسه ورصده من خلال درجة إقبال الطلاب عليه، واستشارته بكل ما يتعلق بأمورهم ومشكلاتهم لثقتهم الكبيرة به، ولكن لابد من تكامل الأدوار بين الأهل والإدارة المدرسية، وضرورة وعي الأهل بالدور المنوط بهم، وبالدور الموكل للمرشد، والتعاون بين الجميع من خلال اللقاءات الدورية لما فيه خير أولادهم.
متوازن نفسياً واجتماعياً
إذا لم تكن هناك تربية وطنية واضحة، وقبول للمختلف عنا، وتربية الجيل على التنوع، فإن العقل ربما يأخذ منحى سلبياً، وسلوك العقل السلبي لا يعني أنه غير ذكي.
الذكاء يحتاج لبيئة حاضنة ترعاه، وإذا لم نرعه ونهتم به ربما تكون هناك تصرفات، أو سلوك غير متوقع تجاه الذات أو الآخر، وربما يتطور هذا السلوك إلى عدوانية، ومن هنا يجب ألا ننفي أن هناك من يحاول أن يشجع أصحاب هذا السلوك لتكون أهدافهم سلبية، والسلوك المنحرف لا يعني أن يكون فقط عند الطالب المعروف بتحصيله المتدني، بل يمكن أن يكون الطالب ذكياً، ويكون سلوكه سلبياً، كالحاصل في المنظومات والتقنيات المعاصرة عند الأشخاص الذين تطلق عليهم تسمية “الهكر”، وما قد يسببونه من أذى وضرر لمن تتعرّض حساباتهم للقرصنة الالكترونية، وهذا دليل على أن الذكاء إما أن يوجّه للخير والسلام والطمأنينة، أو يوجّه للشر.
من هنا يتضح أن التربية والتعليم ليسا مجرد مسألة ذاكرة وحفظ، بل يجب أن يشملا عملية نشطة يجرّب فيها التلاميذ الاكتشاف، والإبداع، والتعبير عن الذات، والمشاركة في التعلّم، ما يسهم في إيضاح أهمية دمج الدعم النفسي والاجتماعي في العملية التعليمية.
لينا عدرة