عنب دوماني (10)
د. نضال الصالح
على مقربة من الشارع الرئيسي المؤدي إلى دوما وقف الأستاذ عبد الرحيم يحدّق في تلال السواتر الترابية المرتفعة أمامه، وفي الأبنية المتهالكة في غير جزء منها، ثمّ يرجو الضابط أن يسمح له بالدخول إلى المدينة ليرى بيته، فيرجوه الضابط بدوره أن يصبر بعض الوقت ريثما تنجز وحدات الهندسة مهماتها في إزالة الألغام التي خلّفها المسلّحون وراءهم.
ساعتان، ثلاث ساعات، أربع، حتى تدثرت الطبيعة بعباءة أول الليل، والأستاذ لا يبرح مكانه مهما طال انتظار، بل لو كان ذلك الانتظار إلى مطلع الفجر، كما لا يستجيب لنداءات هاتفه الجوال التي لم تكن تتوقف من زوجته وأولاده قلقاً عليه. كان الضابط الشاب المسؤول عن الحاجز المرابط على مدخل المدينة يتمنى عليه أن يمضي إلى البيت وبين وقت وآخر يستعيد لازمته: “الصباح رباح يا عمّ”، والعم، الأستاذ، يستعيد بدوره لازمته: “البيت وطن يا ابني، من لا بيت له لا وطن له”، ثمّ يستغرق في صمت طويل لا يبدده سوى رنين هاتفه المصحوب بأغنية فيروز: “طالت نوى وبكى من شوقه الوتر”.
فيروز، ذلك هو السرّ الذي كان يلوب مهيار لمعرفته كلّما كان الأستاذ يبدأ حصته الدرسية بأغنية لفيروز. كان يفتح هاتفه الجوال، ثمّ يطلب إلى الطلاب أن يرهفوا أرواحهم للأغنية، وبعد ذلك يبدأ إعطاء الدرس. كان يقول: “هذا صوت من السماء”، وبعد أن يصمت قليلاً يتابع: “والسماء نفسها تحبّ الشام”.
أعادت أمّ ميسون على ابنتها السؤال: “تحبّينه؟”، فعاد وجه ميسون يتضرّج بتلك الحمرة الشفيفة التي تزيد بشرتها سحراً على سحر، وآنذاك أدركت الأمّ أنّ قلب ابنتها يسبّح باسم ذلك الفتى الدوماني الذي لم تكن تقدّر يوماً بأن ميسون يمكن أن تتعلّق بمثله، ولاسيما أنها كانت دائمة الصداح بأنّها لا تطلب من السماء سوى رجل يشبه أباها، وكانت تقصد شهرة أسرته ومكانته الاجتماعية وثراءه أيضاً.
وفي الغرفة المزدحمة بنفسها في المزة ستة وثمانين أعادت أمّ مهيار على ابنها السؤال: “تحبّها؟”، فعاد وجه مهيار يصخب بالحياة بعد أن كان الإرهاق في ذلك اليوم نال من سمرته الباهرة، وآنذاك أدركت الأمّ أنّ ابنها شغف حبّاً بتلك الفتاة التي لا تنتمي إلى طبقتهم، وأنّ عليها أن تصلّي من أجله لعلّه، ما إن ينهي دراسته، ويبدأ الحياة، يمسك التراب، فيصير ذهباً بين يديه، فيكون له ما يشاء من أمنيات القلب والحياة.
صباحاً، في نحو السابعة، كانت ميسون تنهض من سريرها، ثم تمضي إلى باب البيت، وتمعن النظر، من العين الصغيرة التي تتوسط أعلاه، ثمّ تهتف ملء القلب: “مهيار!”، فيردّ مهيار: “حبّة العنب!”، ثمّ يغادر الاثنان على عجل في سيارة أبيها إلى دوما، ثمّ يتوقفان عند مدخل المدينة، فتستضيء عيونهما بمرأى الأستاذ عبد الرحيم مستنداً إلى السيارة التي يعمل عليها، ومنعماً النظر في البساتين التي تسوّر المدينة، وهو يقول لضابط شاب يجاوره ويدفع إلى فمه حبّة وراء أخرى من عنقود العنب الهاجع في راحة يسراه:
– دوماني، عنب دوماني.