العقيدة العسكرية السورية ودورها في حسم المعارك الكبرى ضد الإرهاب
د. رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي
النصر الكبير بتحرير الغوطة الشرقية وما بعدها شهادة وطنية وقومية جامعة على أهمية القوة الخلاقة، وعلى ضرورتها في حسم المعارك الكبرى من قبل الجيش العربي السوري الذي يحمل مفاهيم العقيدة العسكرية التي يتحلى بها جنود هذا الجيش العظيم، فهي تعني حقيقة الإرادة والمسؤولية، مثلما تعني الإصرار على أن يكون هذا النصر جهاداً وطنياً بالمعنى القيمي والأخلاقي والشرعي.
ما تحقق في الميدان سيكون حتماً في الوجدان، وهذه الثنائية ضرورية ليس للتعبير عن قيمة النصر، بقدر ما هي استشراف لأهمية التلازم ما بين شرعنة القوة الخلاقة والوعي، لأن الحاجة لها ستظل قائمة في المعارك القادمة مع القوى الظلامية، وفي مراحل تعزيز مشروع الدولة القوية وحمايته، وفي مشاريع التنمية والبناء التي هي الأطر الشاملة للانتصار على كل عوامل الضعف والفساد والهزيمة.
أهمية هذا النصر تتجلى في أن يكون لحالة سورية جديدة، تتعزز فيها الثقة بالإرادة الوطنية، وبمشروعية الدولة ومؤسساتها، مثلما هي الحاجة لأن يكون هذا النصر درساً وطنياً، على مستوى تراكم الخبرة للمؤسسة العسكرية والأمنية العقائدية، وعلى مستوى التلاحم الشعبي والمجتمعي، واستنهاض الهمم التي كانت الحافز الأكبر على الإيمان بحقيقة النصر، فضلاً عن ضرورته في دراسة ومعاينة كل الظروف والعوامل التي تسببت في الأحداث الجارية، بما فيها التأثيرات السياسية، والتي اصطنعت لها “طوابير” متعددة الألوان والاتجاهات، وبأجندات دولية وإقليمية ومحلية لا شأن لها سوى تخريب العملية السياسية في سورية، وإجهاض مشروع الدولة الوطنية الجامعة.
إن انتصار التحرير في الغوطة الشرقية وما بعدها ليس فعلاً عسكرياً فقط، بل هو تمثيل لكل معطيات الواقع السوري وتحدياته، والتي تتطلب وعياً بحاجات القوة الخلاقة وشروطها، والتي أدركت خطورة الموقف الوطني، والحاجة إلى هذا النضال بوصفه مصدراً شرعياً للقوة الحمائية السائدة والداعمة، والتي فرض من خلالها الجيش العربي السوري بروحه الوثابة معادلات جديدة لمعاني تلك القوة الخلاقة، ولقواعد الاشتباك في الميدان وفي المواجهة، وليس انتهاء بالعقلانية والمهنية التي أدارت المؤسسة العسكرية بخططها وبرامجها وجهدها اللوجستي والتعبوي، وكل هذا التلازم والتعاضد كان هو الميدان الواسع للانتصار في المعارك، وفي إدامة زخمها.
النصر السوري العسكري العقائدي هو أيضاً لازمة لعناوين جديدة للنصر السياسي، وللنصر الوطني والقومي، وللنصر الأخلاقي، إذ استطاعت هذه العناوين أن تشكّل صدمة، وإضاءة حقيقية لإفشال المؤامرة التي تقودها أمريكا وفرنسا وبريطانيا، وأن تكون عاملاً سانداً لفضح كل الأجندات التي تقف وراءها، وأن تؤسس أفقاً جديداً لحالة سورية وعربية وحدوية، ولاسيما مع العراق الشقيق ضد الإرهاب، وأن تكون هذه الحالة أيضاً عاملاً سانداً لفضح كل الأجندات التي تقف وراءها أكبر دوائر المال إجراماً ووحشية، وأن تؤسس أفقاً جديداً ليس على مستوى صناعة القوة وحدها، بل على مستويات ترصين وجود هذه القوة، والثقة بها، وشرعنة وجودها في العمل المؤسسي، وفي تنظيم هذه الإرادة، وفي تحفيز المعاني الأخلاقية للنضال بمواجهة كل عوامل الفساد والخذلان والتآمر وضعف النفوس، ومع توق الشعب السوري للخلاص من أسباب التهديد الأمريكي- الغربي، والمشاريع الاستسلامية التي تريد تجزئة الوطن العربي، والتصدي للحركات المتطرفة التي جاءت بها أمريكا وحلفاؤها الغربيون لتدمير منجزات الشعب العربي السوري.
وبانطلاق عمليات تحرير كل الأراضي السورية من يد الإرهاب المدعوم من أمريكا والغرب وآل سعود وقطر وتركيا والكيان الصهيوني، تكون سورية قد أنجزت الخطوات الأهم باتجاه تحسين موقع الدولة، وإغلاق المناطق الرخوة جغرافياً وسكانياً أمام موجات التطرف الإرهابي، حيث ظلت هذه المناطق تمثّل جرحاً نازفاً في جسد الدولة السورية، عندما تمكنت عصابات الإرهاب من اختراق نسيجها الاجتماعي، واللعب على تناقضات الهويات الفرعية، مستحضرة نماذج تاريخية من صراعات الطوائف والمذاهب في الحواضر الإسلامية، فوجدت القاعدة وبعدها وريثها “داعش” الإرهابي في تأليب السكان بعضهم على بعض، وزرع العداوات وإثارة التناحرات بين مكونات الشعب السوري، عبر خطوات منظمة من عمليات تدمير الثقة المتبادلة، وقطع أواصر التواصل الاجتماعي، وبناء جدران من العزلة والثقة المفقودة بين مكونات الشعب السوري، ونجحت هذه الاستراتيجية في تحويل المنطقة إلى مركز عمليات لتدمير المجتمعات المحلية في سورية وما جاورها، والانطلاق من هذه المناطق إلى الجغرافيا الأبعد لتدمير إمكانات التعايش وتحطيم السلم الأهلي، ومن الغوطة الشرقية والمناطق القريبة منها، اختار “داعش” بعضاً من عتاة زعاماتها ليقودوا المعارك الأشد في تاريخ “التنظيم الارهابي” ضد الدولة السورية.
لقد اختيرت الغوطة الشرقية استراتيجياً لتكون نموذج التدمير الذي يسعى إليه “داعش” وأخواته، ليقيموا على أنقاض هذا التدمير دولتهم الدينية المزعومة، أملهم في أن يستفيدوا من تقاطعات المصالح الإقليمية والدولية ليبنوا سياجاً حديدياً حول هذه المنطقة، وكان واضحاً أن عمليات التحرير التي حررت حلب ودير الزور وريف دمشق قد أفشلت رهانات متعددة، وسيناريوهات كثيرة لما كان يراد لسورية، ولتركيا بطبيعة الحال يد طولى في المنطقة، حاولت باستماتة أن تكون لها كلمة في الشأن السوري بأسره، انطلاقاً من مشكلة عفرين، وكانت لأردوغان ملاحظاته الخشنة غير المألوفة التي تجسد طبيعة الرؤية التركية التوسعية في سورية على ضوء ما يحدث في هذا البلد.
عندما استعادت سورية الغوطة الشرقية وما بعدها من مناطق محيطة بدمشق سقطت الرهانات نتيجة إزاحة الاستعداء المجتمعي الذي فرضه “داعش” وأخواته، أو بإثارة حساسيات محلية تثير غباراً من المشكلات يحجب صورة التحرير الناصعة بعودة هذه المدن إلى أهلها بعد سنوات المحنة الطولية، تستعيد الطريق لتعافي سورية، لتستكمل بعدها خطوات إعادة بناء الدولة رغم الصعوبات الكبيرة، لكن الشوط الأكبر تم إنجازه، واليوم وفي خضم الانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش السوري، يمسك الجيشان العربيان السوري والعراقي حدودهما، وهما أشد عزيمة لتدمير آلة “داعش” والعصابات المتجحفلة معاً لتشديد الخناق على من بقي منها على قيد الحياة، ولتطهير أرض الرافدين من هؤلاء التكفيريين الذين دمروا الزرع والضرع والحجر.
إن نظرة ثاقبة للمعارك التي يخوضها الجيش العربي السوري تثبت امتلاكه لزمام المبادرة، فقد أجمع الخبراء العسكريون في الغرب الأوروبي على أن النجاح الذي حققه هذا الجيش وهو يقاتل على الأرض وفي الجو ضد الزمر الإرهابية المدربة في دول العدوان، كان قتالاً مهنياً تمت إدارته بمهنية عسكرية وبفنون العقيدة العسكرية التي امتلكتها بعض الجيوش في العالم في ساحة الميدان، وبهذا فقد أثبت الجيش العربي السوري أنه القادر على حسم المعارك، لحمله المفاهيم العسكرية العقائدية التي ورثها منذ تأسيسه وحتى الآن، وبذلك كانت الرؤى العقائدية تمثّل إمكانية نجاحه في حسم المعارك العسكرية بخطا ثابتة في ميادين القتال ضد العدوان الأمريكي- الغربي- الصهيوني والحركات المتطرفة.