هل يمكن خلق نظريّة نسويّة في الدولة؟
إخلاصاً منه لمشروعيّة توجّهه الفكري النهّضوي، النّسويّ الذي تجلّى في عناوين ترجماته المهمّة السّابقة ومضامينها، سواء تلك التي اشتغلها لوحده أو بجهد مشترك مع آخرين وهي: (اللّغز الأنثوي، دفاع عن حقوق المرأة، المرأة المخصيّة، النسويّة والقوميّة في العالم الثّالث، وغيرها..) الصّادرة عن “دار الرّحبة للنشر والتوزيع في دمشق” ها هو المترجم “عبد الله بديع فاضل” يتحفُنا بكتابه الجديد “نحو نظريّة نسويّة في الدّولة” toward a feminist theory of the state لعام2018 م . للمؤلّفة الأمريكيّة “كاترين أ. ماكينون” المحامية والأستاذة الجامعيّة والنّاشطة في المجال النّسوي. الذي كان لي شرف الاطلاع على مسودّة ترجمته، وأعلم أنّه كان من أصعب الكتب التي ترجمها، وأنّه كلّفه الكثير من الجهد والوقت ليأتي بهذه الصيغة، لأسبابٍ أوضحها في ملاحظاته الداخليّة ضمن مقدّمته. آملاً بأن يكون إضافةً جيّدة للمكتبة العربيّة، لاسيّما في هذه المرحلة التي يدور فيها كلام كثير حول القوانين والدّساتير وإعادة صياغتها بما يراعي منظور النّوع الاجتماعي “الجندر”.
أكّدتْ المؤلّفة في كتابها على القضايا الأساسيّة التي تخصُّ المرأة: كالتّحرّش الجنسي بالنساء، ومناهضة التّصوير الإباحي، والتّمييز ضدّهن، والمساواة بين الجنسين، وغيرها، وعلاقة كلّ ذلك بالقانون. من خلال تحليل نقديّ نسويّ للنظريّات الحديثة في الدّولة، ولعمل الجماعات النّسويّة في التوعية والتّنظيم، وانعكاس ذلك على زيادة الوعي والمعرفة اللذين تجلّيا ممارسة ومطالبة بحقوق معيّنة أو إجراء تعديلات على القوانين والدّستور، واجتهادات المحاكم الأمريكيّة بشأن هذه القضايا، كقانون الخصوصيّة، وقانون الفحش. تحليلٌ قائم على وعي جدليّة الاجتماعيّ والمعرفيّ وكيفيّة تأثير كلّ منهما في إنتاج الآخر. يستعرض النّظريّة الّليبراليّة في الدّولة ورؤيتها لمكانة المرأة وحقوقها وكيفيّة ترجمة ذلك عبر القوانين. مركّزاً على أفكار “جون ستيوارت ميل” بكتابه “استعباد النّساء” ومقاله “عن الحريّة”. مقارناً ذلك مع أفكار النّظريّة الماركسيّة في الدولة وفهمها لقضايا المرأة، خصوصاً الأنموذج النّظري الذي قدّمه إنجلز في كتابه المعروف “أصل العائلة والملكيّة والدولة”، مع رصد للآراء اللّاحقة لمؤيّدي هاتين النظريّتين في القرن العشرين، كمحاولة للجمع بينهما رغم التّناقضات والتّضاربات على اعتبار أنّهما تنطلقا من أرضيّة الوعي ذاتها لمقاربة النّظام والتّغيير الاجتماعي، كما حاول التّحليل مواجهة التّفسير النّسويّ لخضوع النساء الذي فهم بأنّه الشّرط الذي وصفته “أدريان ريتش” عام 1972م بأنّه “مشترك وغير ضروري وسياسي” مع التّفسير الماركسي لاستغلال الطبقة العاملة، وحين تبيّن أنّ افتراض امتلاك الحركة النسويّة نظريّة في “الجندر” كما للماركسيّة نظريّة في الطّبقات، ليس دقيقاً، تحوّل الهدف نحو خلق مثل هذه النظريّة وتطويرها عبر تنقية الممارسات النسويّة.
ولذلك فالقول بأنّ النّسويّة هي “بعد ماركسيّة” لا يعني أنّها ترمي بالطّبقات خلف ظهرها، بل يعني أنّ النسويّة، الجديرة باسمها، تستوعب المنهجية الماركسيّة وتتخطّاها، وتلقي بالنّظريّات التي لا تفعل ذلك في سلّة المهملات.
لقد قدّمت النّسويّة وصفاً غنيّاً لمتغيّرات التّمييز الجنسي ومواقعه ولعدد من تفسيراته الممكنة. وأعمال كلّ من “ماري ولستونكرافت، وتشارلوت بيركنز، وسيمون دو بوفوار” أمثلة على ذلك، ولكن باستثناء بضع بدايات رئيسيّة مثل أعمال “كيت ميليت، وأندريا دووركين” لم تقدّم النسويّة وصفاً للسلطة الذكريّة ككليّة منظّمة، فبدت كأنّها، نظريّة ملحميّة تسعى لتغيير العالم ذاته، في الوقت الذي تحتاج فيه هي ذاتها إلى كتابة.
الكتاب بمجمله محاولة لتحليل “الجندر” أو “النّوع الاجتماعي” الذي يمكنه تفسير المكانة الحاسمة وواسعة الانتشار التي يحتلّها الجنس، بوصفه بعداً اجتماعياً، وبوصفه بنيويّاً بالمعنى الخاص. وشكلاً من أشكال السلطة، بأشكالها المجندرة المختلفة، لكن هذا لا يعني اختزال كلّ شيء إلى الجندر، فعلى سبيل المثال، ليس من الممكن مناقشة موضوع الجنس دون الأخذ بالحسبان تجربة النساء السّوداوات في الجندر، ذلك أنّ تجربتهنّ لا تنفصل إلى حدٍّ بعيد، عن تجربة العرقيّة.
لقد قيل الكثير عن تمييز مفترض بين “الجنس والجندر”، إذ يُعتقد أنّ الجنس يرتبط أكثر بالجانب البيولوجي، فيما يرتبط الجندر أكثر بالجانب الاجتماعي، وعلاقة كل منهما بالجنسانيّة تختلف، فالجنسانيّة التي تؤكّد على الشّؤون الجنسيّة والجنس أساسيّة للجندر، وهي اجتماعيّة بالدرجة ذاتها من الأهميّة. ذلك أن البيولوجيا تصبح المعنى الاجتماعي للبيولوجيا ضمن نظام من التّفاوت بين الجنسين، مثلما يصبح العرق إثنيّة ضمن نظام من التّفاوت العرقي. كلاهما اجتماعي وسياسي في نظام لا يقوم مستقلّاً على الاختلافات البيولوجيّة في أيّ مجال.
تطمح المؤلّفة باختصار، لإنشاء، نظريّة نسويّة في الدّولة، معتمدةً ما قدّمته الحركة النسويّة في السّبعينيات من إسهامات ابتكاريّة فكريّة في النظريّة النسويّة وقد جاء أغلبها، من نساء خارج الجامعات: “أندريا دووركين، أودري لورد، كيت ميليت، أدريان ريتش”، وكذلك من مساهمة كاتبات من خارج العالم الأكاديمي أيضاً مثل: “سوزان غريفين، روبن مورغان، غلوريا شتاينم، جون ستولتنبرغ” كما تمّ الاستفادة من الجهود الأكاديميّة لـ “ديانا راسل” في بحثها الاستثنائي عن إساءة المعاملة الجنسيّة الذي ساهم بتقديم النظريّة الجنسانيّة على النّحو الوارد في الفصل التاسع، وكذلك لناشطات نسويّات أكاديميّات مثل: “كاثلين باري، باولين بارت، فيليس تشيزلر، نانسي كوت، ماري دالي، تيريزا دو لوريتيز، مارلين فاري، كارول جيليجيان، هايدي هارتمان، أليسون جاغار، غيردا ليرنر، كريستين لوكر، كارول بيتمان، باربارا سميث، إليزابيث سبيلمان”.
أوس أحمد أسعد