أرملة سوداء..!
حسن حميد
صفة الأرملة السوداء، صفة تطلق على أنثى العنكبوت التي لشدة عشقها تقتل زوجها عبر سمّ قاتل، شديد الفعالية، وهي تتميز بلونها الأسود الداكن، وحجمها الكبير، من هنا أتى عنوان هذه المجموعة القصصية التي أواقفها في الأسطر الآتيات للكاتبة لميس الزين، وهي الكتاب الأدبي الثالث لها. استوقفتني هذه المجموعة لأسباب عدة، لعل في طالعها فرحي بأن أحداً من الأدباء الطالعين يكتب من أجل الإبداع والمضايفة، وليس من أجل أي شيء آخر، يكتب القصة القصيرة جداً وفق مقتضياتها كجنس أدبي مهموم بالاقتصاد اللغوي، والتكثيف، والتلميح، والاستحواذ على انتباه القارئ من دون أمرين اثنين هما: الإفاضة، والاستعراض، وكتابة القصة القصيرة جداً، امتحان عسير، ومخاض موجع كيما تستوي نصوصها على قاماتها من دون تفريط أو انحناء، والنجاح المستلّ منه هو نجاح يشبه نجاح الفنان التشكيلي الذي يصوغ لوحة متفردة، أو الموسيقي الذي يبدع قطعة موسيقية فذة، أو السينمائي الذي يطوي كل شيء من أجل أن تبدو الجماليات وتنوف على غيرها من الحوامل.
لميس الزين، في كتابها القصصي (أرملة سوداء) تتفوق على نفسها، وتشد القارئ إليها، لأنها كتبت نصوصاً قصصية جارحة من حيث الجرأة والمكاشفة، ومدهشة من حيث البناءات الفنية التي تحيّد الأسطر الطوال للاستهلال أو العتبات، وتضع بدلاً منها كلمة تشير إلى الزمن أو المكان أو الشخصية أو الحدث، وهي الافتتاحيات المعروفة عالمياً في فن القصة، ثم تدفع الحدث بكل ما فيه من غرابة، ودهشة، ومخاوف، وأسئلة.. عبر سطر طويل ثم تتوقف فجأة في عصف راج يحتم على القارئ أن يعود إلى بداية القصة ليرى خطها البياني المتصاعد والهابط، وما في الحالين من أسرار الأدب وحرائقه.
قصص (أرملة سوداء) القصيرة جداً، في معظمها، قصص أشبه بأجمات الشوك مرة، وهي تواجه المرء بما زلّه أو حيّده من حالات الضعف والعطب والتراضي والانطفاء، وهي أشبه بحقول الورد مرة أخرى وقد فاضت طاقتها الإيجابية عن حدودها كي تمنح القارئ أسباباً لفتح دروب جديدة، وكي تعيده إلى انتباهات طوتها شواغل الحياة.. كيما يرى المساءات من علوة وهي تحتشد بطيور الحمام، والغيوم السابحات، وروائح القهوة، والأحلام التي تصعد في أول المساءات في دروب الجذل!.
ومع أن أسطر القصص قصيرة، وحجومها تكاد تعشش في كفّ واحدة، غير أنها نصوص تقول الكثير وهي تهز القناعات المستتبة، من أجل تحولات جديدة تصوّب الخطا، وتجعل من التمتمات الخائفة كلاماً جهيراً، ومن الأحلام البعيدة وقائع تعاش!
ولهذا نرى، وبعد قراءة كل نص قصصي قصير جداً في هذه المجموعة، اندياح سيل من الأسئلة التي استطاعت النصوص أن تولّدها، وبعض هذه الأسئلة شيطانية باعثة على السخرية المرة التي تستحوذ على هذه الصور وترميها في المرايا التي تواجه الإنسان كيما يرى نفسه على حقيقتها!
والمهم أن النصوص تواجه الحرب التي أمطرت عذاباً أسود خلال سنوات سود، فورّثت أمرين اثنين، هما: المواجع التي فاضت عن المعقول، والمحبة التي فاضت عن المعقول أيضاً.
وهذه هي طبيعة الحرب التي تلد اللامعقول في الانحدار والسفاهة من جهة، وفي العلو الفذ الخارق لطبيعة البشر من جهة أخرى. قصص (أرملة سوداء) تواقف جمال حلب المدينة، والناس، والشواغل، والأحلام.. في وقت أسود، جهوم، حرون، خلو من الجماليات، وكل هذا تقلبّه النصوص على وجوهه المشدودة إلى زمنين اثنين، هما: زمن ما قبل الحرب وترسيماته، وزمن الحرب والعتمة التي شالت به!
قصص (أرملة سوداء) لـ لميس الزين انشداد إلى عالم الأدب وما فيه من مكابدات وتوقٍ إلى المضايفات الواسعة كي تنهض وتصير علامات راشدة.