المعركة السياسية والهوية الوطنية العروبية
رغم سقوط الرهان العسكري العدواني على إسقاط الدولة الوطنية السورية وتقسيمها، بعد عجز المعسكر المعادي، عن إيقاف تقدم الجيش العربي السوري وتوسيعه رقعة المناطق المحررة من رجس الإرهاب، فإن الإدارة الأمريكية وحلفاءها الإقليمين والدوليين، يجدون صعوبة بالغة في بلع سقوط ذلك الرهان. وتحاول إدارة ترامب، بكل الوسائل، أن تبعث الحياة فيه، أقلّه إحداث التقسيم انطلاقاً من شرق الفرات الذي تحتلّه، باستخدام ما تبقى من الأدوات التي وظّفتها منذ البداية لتحقيق مشروع إسقاط الدولة، ومنها “داعش” الذي مازالت بقاياه تتلقى الحماية والدعم من واشنطن وغيرها حتى الآن. وهذا يندرج في سياق عرقلة الانتصار النهائي المحتوم على الإرهاب الذي يقترب الجيش العربي السوري بعزم وتصميم من تحقيقه، ليتعامل بعدها مع الدول الأجنبية التي تحتل أجزاء من الأرض السورية، في اعتداء فاضح على السيادة الوطنية، وانتهاك سافر للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، أكثر مما يندرج في سياق خطة واقعية محكمة تتوفر لها عوامل النجاح، بل إن مثل هذه الخطة هي خط أحمر بالنسبة لسورية وحلفائها، وسيتم التصدي لها في الوقت المناسب، وإفشالها بالتأكيد. فماذا في جعبة أمريكا التي لابد أنها تدرك ذلك ، وتعرف أن خطتها هذه محكومة بالفشل في نهاية المطاف؟.
بعد أن فاجأ الجيش العربي السوري الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني بالكفاءة العالية التي تمتلكها مضاداته الدفاعية في التصدي لعدوانهما، مغيّراً بذلك قواعد اللعبة، لم يبق أي أفق واقعي أمامهما لشن حرب عدوانية واسعة على سورية. لهذا، ومع عدم استبعاد لجوئهما الى الضربات المحدودة التي دأبتا على ارتكابها، فإن تركيز المعسكر المعادي سيكون على عرقلة الحل السياسي، ومحاولة فرضه بالصيغة التي تخدم مصالحه وأهدافه التي عجز عن تحقيقها بالحرب والعدوان، ولا سيما بعدما أبرزته قمة سوتشي الأخيرة بين السيد الرئيس بشار الأسد والرئيس بوتين من اهتمام بتفعيل العملية السياسية، على خلفية الإنجازات التي حققها الجيش في محاربة الإرهاب، وقول الرئيس الأسد: “هذا اللقاء هو اليوم فرصة لوضع رؤية مشتركة للمرحلة القادمة بالنسبة لمحادثات السلام سواء في أستانا أو سوتشي.. طبعاً ركزنا بشكل أساسي على لجنة مناقشة الدستور المنبثقة عن مؤتمر سوتشي والتي ستبدأ أعمالها بمشاركة الأمم المتحدة..”.
رداً على هذا لا يُنتظر من معسكر الأعداء بقيادة أمريكا أن يقف مكتوف الأيدي، فمازال يمتلك بعض القدرة على التعطيل والعرقلة اعتماداً على مختلف الحجج الواهية كما كان يفعل في السابق. لكن، وفي ظل دخول الحل السياسي هذه المرحلة الحاسمة التي يُفترض أنها ستضع مبادئه الأساسية، فإن من المحتمل أن يضع ذلك المعسكر كل أوراقه الضاغطة في هذه المعركة السياسية لتحقيق هدف تغيير هوية الدولة السورية، وإنهاء نهجها السياسي المقاوِم، ولاسيما أن الدستور هو الذي يحدد الأسس والمبادئ التي يقوم عليها البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للدولة.
وإذا كانت الثقة في اللجنة السورية التي ستمثل الدولة في مناقشة الدستور ثقة تامة ومطلقة، فإن تمسك سورية بخياراتها الوطنية والقومية التي استُهدفت بسببها يجب أن يكون اليوم في أوج قوته وصلابته، ولا سيما في ظل بعض ردود الأفعال الشعبوية العفوية التي حمّلت العروبة جرائم الرجعية العربية بحق سورية، وحمّلت الإسلام جرائم “داعش”، وحمّلت قضية فلسطين أخطاء إحدى الفصائل الفلسطينية. نقول ردود الأفعال الشعبوية تمييزاً لها عن بعض الردود النخبوية التي وظّفت الفكر في النيل من علاقة الاتصال بين الوطنية والعروبة، على سبيل المثال وليس الحصر، مما يقتضي المزيد من النشاط الحكومي والمجتمعي على صعيد مواجهة هذا الانحراف مواجهة فكرية فاعلة، والقضاء على الأغاليط التي تسمّم العقول، ومنها الفصل بين الوطنية والعروبة كما أشرنا، والخلط بين العلمانية ومعاداة الإسلام، والفصل بين هذا الأخير والعروبة، وغيرها…
صحيح أن التطوير الفكري في ظل ما يطرحه الواقع من تغيرات مطلوب، وأن أعظم الأفكار وأكثرها نبلاً يترهل ويموت إذا لم يواكب هذا الواقع.
لكن تلك العملية يجب أن تجري بعيداً عن كل أهداف مغرضة تسعى الى تكريس الإقليموية، والطائفية، والمذهبية، والتبعية، وغيرها من الآفات التي تضعف الدولة وتمزقها وتجعلها فريسة في براثن الاستعمار.
ولنا في كلمات وخطب الرئيس الأسد أجوبة عميقة تعالج كل هذه الإشكاليات بمبدئية وواقعية في ذات الوقت، وبما يحافظ على الوطن السوري سيداً، موحّداً، عربياً وفاعلاً في محيطه الإقليمي والدولي.
محمد كنايسي