دراساتصحيفة البعث

الظاهر والباطن في صفات “الضالين”

عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
قبل أن ننتقل إلى البحث التفصيلي في صفات الفئة الثالثة، أي فئة الضالين، في ضوء التعريف بها في الآيات 8– 16 من سورة البقرة، لا بدّ لنا من وقفة أمام الدلالات اللغوية التي نستخلصها من هذه الآيات، بما يمكّننا أولاً من تحديد الإطار العام للبحث، وبما يشكّل ثانياً إضاءةً أولية تكفل لنا الاستيثاق من سلامة منهجنا في البحث والاستقصاء، إضافة إلى تحديد الضوابط التي تحكم قراءتنا للمعطيات.
إن الملاحظة الأولى التي تستوجب الوقوف عندها بتمعن هي أن التعريف القرآني لهذه الفئة يبدأ بقوله تعالى {ومن الناس}. فما هي الدلالات المترتبة على ذلك؟.
نحن نعرف بداية أن كلمة الناس تعني الناس بشكل عام، ونعرف ثانياً أن لفظة “مِن” هي حرف، وتكون في اللغة ابتداء غاية، وتكون بعضاً، وتكون صلةً. ومن الواضح تماماً أنها جاءت هنا للتبعيض، أي أن قوله تعالى {ومن الناس} يعني “بعض الناس”. وهذا التبعيض بداية يفهم منه أن أصحاب الموقف الموصوف هم أقلية من الناس، فلو كانوا أكثرية لكان من المرجح أن يجيء التعبير دالاً على الكثرة.
ولورود كلمة “الناس” هنا دلالتها الهامة في فهم الموقف.
فالخالق عز وجلّ قال{ومن الناس} ولم يقل “من المؤمنين” أو “المسلمين” ولا قال “من الكافرين” أو “المشركين”، أي أنه لم ينسب هؤلاء إلى هذه الفئة أو تلك. كما أنه لم يعطِ لهؤلاء هويّة محددة، وإنما بقي التوصيف مفتوحاً وشاملاً. وهذا يعني أنه سبحانه وتعالى لم يحتسب هذه الفئة من الناس بداية لا على المؤمنين ولا على الكافرين، ولا على أية أمة من الأمم دون أمة أخرى، وإنما أعطاها وضعها الخاص الذي يتمثّل في المحصلة بكونها من “الضالين”. فلو قال “من المؤمنين” لوجب إلحاقها بالمؤمنين، ولو قال “من الكافرين” لوجب إلحاقها بالكافرين. وفي كلتا الحالتين سيحلّ التصنيف الثنائي محل التصنيف الثلاثي. فوجود هذه الفئة من الضالين هو أساس التصنيف الثلاثي في القرآن.
من الملائم هنا أن نلاحظ بأن سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق”، وإن كان من المفترض أن يكون خطابه موجهاً إلى المسلمين، إلا أنه تحدث مراراً وتكراراً عن التوجه إلى “الناس” بدلاً من التوجه إلى المسلمين أو المؤمنين، ودافعه إلى ذلك واضح في تجهيله لعامة المسلمين أو المؤمنين. ومن الأمثلة على مخاطبته للناس قوله “يتحرر الناس جميعاً” {ص10}، وقوله “إن الناس عبيد الله وحده” {ص31}، وقوله “حين يدعون الناس لإنشاء هذا الدين” {ص46}، وقوله “الذي يرى ضلال الناس” {ص207}، وقوله “وحين نخاطب الناس” {ص212}. فكأنه عن وعي أو دون وعي جعل دعوته موجهة من “بعض الناس” إلى “الناس”!!.
لا تمنعنا هذه الملاحظة المعترضة، رغم ما تنطوي عليه من دلالة، من أن يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: من أيّ وسطٍ من أوساط الناس جاء أو سيجيء هؤلاء “الضالون”؟. أمن وسط المؤمنين أم من وسط الكافرين؟، فهذا سؤال مهم جدير بأن نفكر بالإجابة عليه في سياق البحث إذا أردنا استقصاءً دقيقاً لموضوع هذا البحث.
إن الجواب على هذا السؤال يبدو واضحاً بداية من قوله عز وجل عنهم {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر}. فهذا يعني أن هذه الفئة تعلن الإيمان أو تتظاهر بالإيمان. أي أنها تحسب نفسها أو تصنّف نفسها ضمن فئة المؤمنين، بل سنرى أنها تدّعي بأنها وحدها فئة المؤمنين، وتنفي بالطبع أن تكون من الكافرين أو من الضالين، حيث يجري تغييب “الضالين” كفئة ثالثة. وفي هذه الحالة، وبحكم حاجتنا إلى التفكير والتدبّر، سنكون أمام احتمالين: إمّا أن هذه الفئة ميّزت نفسها عن فئة المؤمنين، أو بتعبير آخر، انفصلت عن فئة المؤمنين، أو أنها كانت ضمن فئة الكافرين وأعربت عن التحاقها بفئة المؤمنين. فكيف لنا أن نتعامل مع هذين الاحتمالين دون أن نخضع تحليلنا للأحكام المسبقة؟.
في محاولتنا للإجابة على هذا السؤال هناك ملاحظة جوهرية لا بدّ من الانتباه إليها في الآيات موضع التدبر. وفحوى هذه الملاحظة أن من يخاطبون هذه الفئة طوال الوقت هم “فئة المؤمنين”، أي أن الحوار يدور بين “فئة المؤمنين” و”فئة الضالين”، وليس بين “فئة الكافرين” و”فئة الضالين”. ومن أمثلة ذلك الأقوال التي يوجهها المؤمنون إلى الضالين بالقول {لا تفسدوا في الأرض} أو {آمنوا كما آمن الناس}. فمثل هذا الخطاب لا يمكن أن يصدر إلا عن المؤمنين. لكن هذه الملاحظة قد لا تكفي وحدها للدلالة على الفئة التي جاء منها “الضالون” أو انفصلوا عنها. فمن جاء من فئة الكافرين مدّعياً الإيمان قد يفسد في الأرض مفسداً إيمانه، كما كان حال المنافقين زمن البعثة المحمدية. ومن جاء من فئة الكافرين مدعياً الإيمان يمكن أن يعطي لإيمانه المدّعى مواصفات تختلف عن مواصفات الإيمان عند بقية المؤمنين.
في الواقع إن ما يمكن أن يساعدنا على فهم حقيقة هذه الفئة من الناس، من حيث المصدر والمآل، إنما هي الصيغة الشرطية المستقبلية التي وردت ثلاث مرات متمثلة في كلمة {وإذا} في قوله سبحانه وتعالى [وإذا قيل لهم لا تفسدوا}، وفي قوله {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس}، وفي قوله {وإذا لقوا الذين آمنوا}.
إن “إذا” في هذه الآيات هي ظرفٌ لما يستقبل الزمان، متضمناً معنى الشرط، ويختصّ لغوياً بالدخول على الجملة الفعلية، ويكون الفعل بعدها غالباً ماضي اللفظ مستقبل المعنى، نحو “إذا درست نجحت”، أي إذا درست في المستقبل نجحت في المستقبل. وفي “لسان العرب” يقول الليث: “تقول العرب إذا لما يستقبل”. ويقول الجوهري: إذا اسمٌ يدل على زمان مستقبل ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة، وفيها مجازاة لأن جزاء الشرط ثلاثة أشياء: أحدها الفعل كقولك إن تأتني آتك، والثاني الفاء كقولك إن تأتني فأنا محسنٌ إليك، والثالث إذا كقوله تعالى {وإن تصبهم سيّئةٌ بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون}.
ما الذي نستخلصه من هذا التحليل اللغوي لكلمة “إذا” أو “وإذا”؟.
نستخلص أن وصف الفئة الثالثة، أي الضالين، كما ورد في القرآن الكريم، لم يكن لفئة من الناس وجدت في عصر النبي ، وإنما هو وصف لفئة كانت عند نزول الآيات لا تزال في ضمير الغيب أو في جوف المستقبل. وعلى ذلك، فإنها لم تكن فئة من الكفار أعلنت إيمانها وانحرفت كما هو حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين ممّن تناولنا مشكلتهم في بحث سابق والذين ورد ذكرهم زمن البعثة المحمدية، كما أنها لم تكن فئة من المؤمنين وجدت في زمن النبي وانحرفت باتجاه الضلال. إنها فئة قدّر لها في القرآن أن تظهر في المستقبل القريب أو البعيد، وكان لا بد من تثبيت ذلك في فاتحة الكتاب أولاً، وفي التعاريف بالفئات الثلاث في سورة البقرة ثانياً، لتنبيه المؤمنين إليها وإلى خطورتها. وطبيعي في هذه الحالة، وبعد أن انتشر الإسلام في البلاد ودخل الناس في دين الله أفواجاً، أن يكون ظهورها لاحقاً من وسط المؤمنين بعد أن اختفت فئة الكفار أو باتت شبه مختفية.
إن المواصفات الظاهرة لهذه الفئة، أو بالأحرى التي تظهر أو تتظاهر بها هذه الفئة أمام الناس، وليس بوسع الناس إلا أن تحكم على الظاهر أمامها عياناً، يمكن استخلاصها من خلال التعريف القرآني لفئة الضالين كما يلي:
1- يقولون {آمنا بالله وباليوم الآخر}، أي يظهرون الإيمان.
2– يمارسون الإفساد في الأرض ويدّعون الإصلاح {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}.
3– يدّعون لإيمانهم صفات خاصة مميّزة يزكون بها أنفسهم عن المؤمنين الآخرين {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}.
4– يمارسون النفاق في تعاملهم مع المؤمنين {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}.
لنعترف بأن جماعة ما تظهر نفسها أمام الناس بمثل هذه المواصفات أو بعضها، وتدّعي الغلو في التدين، وتعطي لإفسادها وسلوكها الانتهازي صفة الغيرة لله أو مبررات دينية، لن يكون من السهل على الناس، وهم الذين يتعاملون مع ظاهر الأمور ولا يعرفون ما تخفي الصدور أو يعتمل داخل الشعور، أن يحكموا عليها، أو على الأقل أن يفكروا بتصنيفها في فئة الضالين وليس في فئة المؤمنين.
إن الأحكام المتعلقة بسرائر هذه الفئة وخفايا سلوكها الظاهر ومنطقها المعلن، وكما وردت في التعريف القرآني لها، إنما هي أحكام إلهية. فالبشر سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، وهم يواجهون فئة الضالين هذه، لا يستطيعون إصدار الأحكام الواردة في التعريف مثل قوله سبحانه وتعالى {وما هم بمؤمنين}، أي أنه عز وجلّ نفى إيمانهم رغم جهرهم بالإيمان، أو قوله تعالى {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}. فمن الصعب –إن لم نقل من المستحيل– على أي إنسان أن يحكم على فئة ما تتظاهر بالإيمان، بل وتزاود بإيمانها على الآخرين، أنها تخادع الله والذين آمنوا، وفوق هذا فإنهم {وما يخدعون إلا أنفسهم} وحتى في خداعهم لأنفسهم {وما يشعرون}. فإذا كان من يعيش المشكلة لا يشعر بها فكيف للآخرين أن يعرفوا بأنه لا يشعر بها؟. فالله وحده هو من يعلم بما تخفي سرائر الناس. {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} {الأنبياء 110}.
ثم إن قوله عز وجلّ {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} هو تشخيصٌ لما في عقولهم وأنفسهم من مرض، وهو أمرٌ يصعب أن يصل إليه الناس إلا إذا اهتدوا بهذا التشخيص الإلهي للحالة. وكذلك قوله تعالى {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}. فالناس قد تلاحظ إفسادهم، وتحكم على سلوكهم بأنه إفساد، ولكنهم لا يملكون الحكم إن كان هؤلاء وهم يفسدون يشعرون بأنهم مفسدون أو لا يشعرون. فالله وحده هو من يحكم في هذه الحالة التي تتصل بضمير الإنسان ووعيه وهل هو يشعر أم لا يشعر بكونه مفسداً وليس مصلحاً، بل ويذهب إلى ادعاء أنه مصلح بينما هو يمارس الإفساد، فهذه مسألة مرتبطة بذات الصدور. يقول سبحانه وتعالى {إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليمٌ بذات الصدور} {فاطر 38}.
وتتأكد هذه الدلالة حول الخفايا الشعورية أو اللاشعورية لهؤلاء الضالين في ردّه سبحانه وتعالى على قولهم {أنؤمن كما آمن السفهاء} بالقول {ألا إنهم هم السفهاءُ ولكن لا يعلمون}. فإذا افترضنا أن أي إنسان اعتبر مغالاتهم أو سلوكهم تجاه الآخرين سفاهة، وردّ على تجهيلهم أو تسفيههم للآخرين، بتسفيه رأيهم أو سلوكهم، فإنه لا يملك بعد هذا أن يستنتج أنهم {لا يعلمون}. فالله وحده من يصدر مثل هذا الحكم على منطقهم وسلوكهم، حيث يتجاوز الأمر ما هو ظاهر إلى ما هو باطن.
وينطبق هذا أيضاً على قوله سبحانه وتعالى عنهم {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}. فالله وحده هو من يعلم سرّهم ونجواهم وطبيعة ارتباطاتهم السرية الخفية التي يحرصون على التكتّم عليها، مثلما يعلم ما في تعاملهم مع المؤمنين من الصدق أو الكذب. ثم إن الله وحده هو صاحب الحكم القائل {الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}.
وهكذا يتضح لنا بشكل جليّ أن ما خفي من شأن هؤلاء الضالين هو بالنسبة للناس أكثر بكثير مما هو ظاهر أو قابل للرصد والمتابعة. فإذا كان بوسعنا كبشر أن نحكم على سلوك هؤلاء في ضوء أفعالهم أو مواقفهم أو ظواهر الأشياء، مقدرين ما إذا كان هذا السلوك منحرفاً أو فيه خطأ أو خطيئة أو إسراف أو غلو، فإن الله وحده هو من يملك الحكم عليهم بمغادرة فئة المؤمنين واندراجهم تحت فئة الضالين، وذلك مصداقاً لقوله عز وجل {له ملكُ السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير+ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم+ هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلمُ ما يلجُ في الأرض وما يخرجُ منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} {الحديد 2-4}. ثم إنه سبحانه وتعالى {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} {المؤمن 19}.
إن الحكم النهائي والأخير على هؤلاء كما ورد في التعريف القرآني لهم إنما جاء مؤكداً للاستنتاجات التي توصلنا إليها والقائلة بأن هؤلاء الضالين إنما انفصلوا عن فئة المؤمنين، وأنهم وضعوا أنفسهم بالتالي في مواجهة المؤمنين، معطين لسلوكهم هذا مبررات دينية لإخفاء حقيقة ما في أنفسهم من نوازع مرضية. يقول سبحانه وتعالى عن هؤلاء {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}. وهذا يعني أنهم انتقلوا من الهدى إلى الضلال، وليس من الكفر إلى الضلال. وضلالةُ من جاءَ من موقع الهدى هي حتماً غير ضلالة من جاء من موقع الكفر، فقد تكون عملياً أكثر سوءاً، إذ يكون ظاهرها بالنسبة للناس أو بعضهم الرحمة بينما يكون باطنها العذاب. وهذا الذي جعل تصنيفهم يكون في الفئة الثالثة، أي فئة الضالين. فلا هم عملياً من فئة المؤمنين التي انفصلوا عنها، ولا هم انتقلوا إلى فئة الكافرين التي تشكل النقيض وإن كانت هناك حالات تصل فيها ضلالة البعض إلى حد الكفر أو الالتحاق بفئة الكافرين أو المشركين.
لا شك أن المشكلة هي في جوهرها سلوكية أكثر من أيّ شيء آخر، أو لنقل إن المشكلة –أية مشكلة– لا تكون مشكلة طالما أنها قائمة على الحوار أو الجدل بين وجهات النظر، ولكنها تصير ضلالاً وإفساداً حين تلجأ إلى سلوك قائم على الإفساد. وحين نعود إلى الحديث الشريف لتقصّي ما يمكن أن يكون قد ورد فيه عن فئة الضالين هذه، فإنه يستوقفنا أولاً قول الإمام علي رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله يقول: “سيخرج قومٌ في آخر الزمان حدّاث الأسنان، سفهاءُ الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة”.
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي يقول: “يخرج في هذه الأمة، ولم يقل منها، قومٌ تحتقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء”.
وعن ابن عمر: قال النبي: “يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية”.
وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله: “من قتل تحت راية عمّيّة يدعو عصبيّة، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية”.
وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعتُ النبي يقول: “إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهالٌ يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون”.
فالمشكلة إذاً هي في أن يظهر من الناس من يفتي للناس بشؤونهم دون علم فيضلُّ ويضل معه آخرين. وتصير هذه مشكلة كبيرة إذا اقترن هذا السلوك بالتحزب، وشق صفوف المؤمنين، والدفع باتجاه الفتن، والترويج للإفساد. وهنا نستطيع أن نفترض ظهور نماذج متعددة للضالين، وألا يقتصر الأمر على جماعة واحدة. ولا ريب أن أخطر ما في هذا السلوك هو النزوع إلى العدوان والسيطرة.
تستوقفنا في هذا السياق وجهة نظر طرحها د. جودت سعيد في كتابه “إقرأ وربك الأكرم”، تناول فيها السلوك البشري القائم على العدوان والسيطرة وكيف يجب أن نواجهه بالعلم، قال “حين نكشف أسباب هذا الدمار الذي يقوم به الناس ضد بعضهم ونكشف هذه الجراثيم أو المفاهيم التي تحمل الناس على أن يذيق بعضهم بأس بعض كما كانت الجراثيم تفتك بهم، فإننا نقي المجتمع من الدمار والهلاك. فعلم الثقافة وعلم السلوك البشري شبيه بعلم الجراثيم قبل كشف الوسائل التي أظهرت للعيان الجراثيم وأثرها. فكما تمكن الإنسان من معرفة تاريخ الأوبئة والجراثيم، وكيف كانت تفتك في صحة البشر.. فيمكننا اليوم نقل هذه المعرفة التاريخية إلى معرفة أسباب سلوك البشر التي تفتك بالناس وتغري بينهم العداوة والبغضاء. إن كشف أسباب أحقادنا وعداوتنا وجهلنا بوسائل التغيير، وجهلنا بالماضي وعدم استفادتنا وقدرتنا على القياس والاعتبار، إن كشف كل ذلك، يشير إلى بداية تذوقنا كنه العلم وشمّ نكهة الفهم والإحساس ببرد اليقين”.
إنه لأمر مؤكد أن حكمنا على أية أوضاع اجتماعية، أو على أية ظاهرة في الحياة البشرية، يجب إخضاعه لمقاييس المنطق العلمي حتى لا يتغلب الهوى علينا فنضل ونضلُّ الآخرين معنا. وفي هذا أيضاً يقول د. جودت سعيد –ومعه حق فيما يقول– “إذا كانت العلمانية هي قبول نتائج العلم وعواقب الأمور فإن المؤمن لن يتضايق من هذا الشعار، وإنما سيشعر أنه ينبغي أن يصحح منهج المعرفة ليدخل الكل إلى مملكة العلم، ويخضع كل شيء لسلطان العلم الذي لا يقهر”. وهو محق أيضاً في استنتاجه القائل “إذا قلّ العلمُ كثرَ الهوى”. وفي الحديث الشريف “حبك الشيء يعمي ويصمّ”، فالهوى –كما يقول د. سعيد– “يعمي ويصم ويجعل من يقع فيه لا يرى الشيء كما هو ولا يسمعه على ما هو عليه، وإنما يجري عليه التحويرات”. ثم إن الهوى في حقيقته “ظلم للنفس وإن كان في ظاهره حباً لها، ولهذا فإن الهوى يخدع الناس ويصرعهم ويجعلهم في موضع الامتحان، وكشفه آية الذكاء”.
إن المشكلة تبدأ حين يتقدّم أحد ما لطرح فكرة ما دون علم أو وعي مروّجاً لها، مستفيداً من وجود مَن هم جاهزون للترويج لها، فإذا كانت نسبة الخطأ في فكرته قليلة، فإن ترويجها من شأنه أن يجذب إليها من لا يكتفون بالأخذ بها بل ويسعون إلى تضخيمها حتى ولو بإقحام أفكار خاطئة جاهلة عليها. وهؤلاء بدورهم يجدون المروجين، ويجد الناس أنفسهم أمام مشكلة صعبة رغم أن أصل هذه المشكلة هو الجهل أو قصور العلم أو الوقوع في خطأ. وباختصار فإن كل ما يخدم الضلال يكون بضاعة ملائمة تستفيد منها فئة الضالين. وما أكثر أدوات التضليل ووسائله في أيامنا هذه!.