نحو الحرب الشاملة؟!
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا، وبمنتهى الصراحة والوضوح، إن تكرار بعض الكليشهات الجاهزة في التعاطي مع الأزمة (الحرب على سورية) قد يؤدي وظيفته كمسكن مريح لبعض الوقت، وقد تكون له فوائده العارضة في الأوقات العصيبة هذه التي نمر بها، وقد يلعب دوره في تجميد الصراع بين مرحلتين أو يسمح بسبر حقيقة النوايا بين شكين أو يقينين، ولكن من المفيد أن نعي تماماً، وعلى امتداد مسارات الأزمة وخطوط الحرب، أن ما حدث – ويحدث – في سورية لم يكن، لحظة ما، بعيداً عن الصراع الإقليمي والدولي، بما فيه الصراع العربي الإسرائيلي، والطموحات التوسعية الخليجية الناشئة – تكريس الوهابية كإيديولوجيا منتصرة مع انهيار الأنظمة الجمهورية في موجات “الربيع العربي” وتصدير الفوائض المالية النفطية كأداة لتثبيت الهيمنة وواجهة مبهرة للبديل السياسي الموعود – عقب ثلاثة عقود من الفورة النفطية والتراكمات البترودولارية الخرافية، علاوة على تصاعد نزعات الضم العثمانية الجديدة، والطموح الأطلسي – الأمريكي خاصة – للتعويض عن فشل ثلاثة حروب مع – وضد – عراق صدام، وثلاثة أخرى ضد المقاومة الوطنية اللبنانية، والرغبة في الاستحواذ الكامل على الشرق الأوسط لإلحاقه نهائياً بالحظيرة الأمريكية.
في كل لحظات ومفاصل وتفرعات ومنعطفات الأزمة (الحرب)، كانت هذه الأبعاد تتجلّى بكامل حضورها، وتمارس تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، وتترك تداعياتها السلبية أو الإيجابية على أي فرصة أو بارقة حل، لتلعب أخطر وأبشع أدوارها على صعيد الإمعان في إطالة أمد الحرب، وفي أحايين كثيرة تركها معلقة، أو مفتوحة، بانتظار توفّر شروط مناسبة لفرض الشروط. هكذا مثلاً انتقل الخليجيون – الآباء الشرعيون للحرب على سورية – من توفير حبوب الكبتاغون وبنادق البومباكشن إلى تمويل وتسليح جيوش التكفيريين والمرتزقة والأفاقين، وتحوّل أردوغان من توجيه “نصائح” بالتنحي السلمي لـ “النظام”، والنزول عند إرادة “الشعب” – “شعب الإخونجية” بالطبع – إلى تجنيد الألوية والكتائب المسلحة وضمان استمرار تدفق الإرهابيين الدوليين عبر الحدود، وهكذا أيضاً انتقل الغربيون من مواكبة المتظاهرين الليليين المطالبين بالديموقراطية والحقوق والترنم بالاستماع لقرع الطناجر والأناشيد الطائفية باتجاه التمويل والتدريب والتسليح.. والدفاع عن الإرهاب في سورية في المحافل الدولية.
فيما بعد، شكّل صعود وهبوط إيقاع الحرب في سورية صورة مختزلة، وحادة، للحرب بين تكتلين أو محورين عالميين باتا عملياً بحكم الموجودين على الأرض، لنشهد في ذروة، ولو متأخرة نسبياً، لهذا الصراع الحضور المباشر للقوات الأجنبية، الأمريكية والفرنسية والبريطانية والتركية، والخليجية، التي تتخذ صورة كتائب موت مجنسة من القتلة المحترفين، إلى جانب قوات محلية ارتضت العمالة الصريحة للمحررين الترامبيين؛ ليغدو هذا الحضور المباشر – اليوم – ورقة للمساومة والابتزاز الرخيصين، ليس على مستوى الساحة السورية، بل وعلى مستوى المعادلات الإقليمية إن لم نقل الدولية، ولتغدو المطالبة بخروج القوات الأجنبية من سورية نافذة تنفذ من خلالها الإدارة الأمريكية لتصفية بعض حساباتها الإقليمية والتمهيد لما تراه “استحقاقات” ضرورية تنتهي إلى تطبيق أجندات شاملة ترتبط بمصالح و”مستقبل” إسرائيل في المنطقة ومواجهة المطالب والحقوق العربية، والفلسطينية في المقدمة.
تتقلب الإدارة الأمريكية في مواقفها وخياراتها بحيث تجازف بالتحول إلى قوة محرضة عملياً ومباشرة على حرب دائمة لا أفق لنهايتها في سورية، وهي تخلط المعطيات الأمنية والسياسية بحيث تسير المزاعم المعلنة لمكافحة الإرهاب واستراتيجية تقويض “داعش”، وفي خط مستقيم، نحو تفجير حرب إقليمية شاملة لن تترك أحداً، هذه المرة، بمعزل عن نتائجها الكارثية؛ وتتزايد خطورتها واحتمالاتها بوجود حكومة إسرائيلية دخلت فعلياً أجواء الحرب، وهي تستسقي نذرها يومياً، وتريدها لاهوتية وعالمية، وعلى أكثر من ساحة قتال، وضد أكثر من عدو، “قومي” وديني و”تاريخي” في وقت واحد.. حرب إعادة بناء الهيكل الثالث، ويوم ما قبل يوم القيامة.
تسلك إدارة ترامب وكأن القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة ملغيان تماماً عند التعاطي مع الأزمة في سورية. هي لا تعتبر أن هنالك دولة وشعباً قائمان، ولا تعترف حتى بـ “معارضة مفترضة” إلا على سبيل امتطائها كوسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية السورية؛ إنها تنتهج خيارات لا تعبّر إلا عن نوع مدمر ومخيف من العدمية السياسية، وتصوغ مواقف لا تعكس إلا المزيد من الانحطاط الإنساني، ولا تكشف إلا عن غياب أدنى شعور بالمسؤولية الأخلاقية. لقد أدرج صقور ترامب محنة الشعب السوري في عداد المواجهات الامبريالية القابلة للتمدد والتوسع، وهي لا تتهيب الخوض فيها حتى ولو انطوى ذلك على جر الولايات المتحدة الأمريكية قبل غيرها نحو عواقب وخيمة ورهيبة.
لا يمكن اللعب على مفاهيم من شاكلة “القوات الأجنبية” أو إخضاعها للتفسيرات الكيفية والمتحذلقة والمغرقة في الأحادية.. وحدها الدولة السورية من يقرر حيال ذلك، وإلا فالحرب مستمرة ومتواصلة بما تتطلبه المصالح الوطنية السورية. لقد تعب السوريون حقاً، ولكنهم بعد سبع سنوات شعب محارب يملك كامل طاقة التحمل.
بسام هاشم