طوق الحمامة (1)
د. نضال الصالح
دفعَ حسن بالكتاب إلى نور كما وعدها أمس، بل بعد أوّل لقاء جمعهما في مركز إيواء النازحين من غير مكان في الجنوب، فاحتضنته بين راحتيها وهي تعاند رغبة استعرت في روحها لتقبيل مواضع أصابعه عليه، وقرأت: “طوق الحمامة في الألفة والآلاف. تأليف الإمام أبي محمد علي بن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456 هـ”، وبينما هي تقرأ عاجلها بالقول وعيناه تتلعثمان بغير صخب فيهما عمّا إذا كانت ستقول شيئاً بعد أن قرأت عنوان الكتاب واسم مؤلفه وتاريخ وفاته: “الصفحة الخامسة، ما تحته خط نور”، فمضت نور إلى الصفحة بأصابع راعشة وقلب يزداد خفقاً، وقرأت: “وقد اختلف الناس في ماهيته، وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنّه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع”، ولم تكد تبلغ الكلمة الأخيرة، حتى تمنى حسن عليها أن تمضي إلى الصفحة العاشرة، فتقرأ ما تحته خط أيضاً، فقرأت: “وللحبّ علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي، فأوّلها إدمان النظر. والعينُ باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبّرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف يتنقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه ويميل حيث مال”.
أمس، ظهيرته تماماً، كانت نور تنتظر خالتها العجوز التي هجّرها المسلّحون من منزلها في درعا البلد، والتي آثرت البقاء مع جيرانها في الحيّ على الرغم من الدعوات الكثيرة التي كانت تلقتها من أقارب لها للإقامة عندهم. وكان حسن ينتظر زميله المصوّر في الصحيفة التي يعمل فيها للبدء بالتحقيق الذي كلّفه به رئيس التحرير عن واقع المقيمين في مراكز الإيواء، ومن دون أن يدري أيّ منهما، نور وحسن، كيف حدث ما حدث، كان أوّل الحديث، ثمّ الحديث نفسه، ثمّ ونور تفتح أذنيها على آخرهما، تشرعهما كما يلقي صياد بشباكه إلى البحر ويدعو ربّه أن يكرمه برزق وفير، وتصغي إلى حسن وهو يقول: “النور من أسماء الله الحُسنى، وقيل بل صفة من صفاته، وأنّه به احتجب عن خلْقه”.
وفيما يشبه الترتيل قالت نور والحمرة الشفيفة الفائرة في سُمرتها الرهيفة تتقد بغير غواية، بل غوايات: “يا أيّها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربّكم، وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً”، فرتّل حسن: “مثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباحٌ، المصباحُ في..”، وما إنْ استعاد ما كان يحفظ لابن حزم قوله: “خريدةٌ صاغها الرحمنُ من نورِ، جلّتْ ملاحتُها عن كلّ تقديرِ”، حتى انتبه إلى أنّ روحه تهدل باسم الوجه المدوّر أمامه كرغيف طازج من الحنطة الصافية، وحتى أخرج آلة التسجيل من حقيبته، وتمنى على صاحبة الوجه الصاخب بالحياة أن تحدثه عن درعا البلد، بل عن أهلها الذين توزعوا، بسبب المسلحين، بين غير مكان، وأن تفصّل، إذا شاءت طبعاً كما قال، الحديث فيما يعني خالتها، ولم تكد نور تبدأ الحديث، حتى احتشد الدمع في عينيها، وحتى تمنّت على حسن أن يوقف آلة التسجيل، لأنّ روحها لا تحتمل استعادة تلك الصور التي لا تنسى من طفولتها التي أمضتها في الحي الذي ولدت فيه، قريباً من المدرج الروماني الذي يتوسط المدينة… (يتبع).