ثقافةصحيفة البعث

“ساعة بغداد”.. هل تسود العدالة والإنسانية هذا الكون؟!

 

“وأنا في طريق العودة، رأيت أمامي مقدمة سفينة عملاقة يتوسطها برج المأمون مثل سارية طويت أشرعتها، من فتحة صغيرة في جانبها، دخلت ممراتها المظلمة وتجوّلت فيها بحثاً عن أقصر الطرق نحو الحافة المحاذية للمياه، التي يصلني صوت تدافع أمواجها ويصيبني بدوار شديد يكاد يفقدني توازني ويلقيني على الأرض، أنا أسمع صوت الأمواج ويجب أن يصدقني الجميع عندما أحكي لهم عن رحلتي داخل السفينة”.

هكذا تختار العراقية شهد الراوي المكان الذي ستدور عليه أحداث روايتها “ساعة بغداد” التي أثارت الجدل من حيث عدد الطبعات والنسخ المباعة منها والتي تجاوزت الـ 25 ألف نسخة رغم أنها روايتها الأولى، كما أنها وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام.

تقول في حوار معها حول عملها الأول:

“روايتي عن أبناء جيلي ومدينتي بغداد التي غادرتها ولم تغادرني عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وأمنياتنا التي حاولت أن أحميها من النسيان وأمنعها من الضياع، إنها الرواية النظيفة كما يروق لي تسميتها، لأنها لا تتعمد الإثارة خارج منطق الأحداث التي صنعها الواقع والحلم والذكرى والوهم بعد الحد من دور العقل والمنطق في رسم النهايات المتوقعة، فهناك نهايات مفتوحة وأسئلة لم تتم الإجابة عنها وهكذا هي الحياة بمجملها”.

“ساعة بغداد” اتخذت البساطة والعفوية لغة لها تدلل على تأثر كاتبتها بعدد من الروائيات ما بعد الحداثة، وعالم الميديا الحالي:

“عندما سألت أبي؛ هل نحن من الطبقة الوسطى، قال لي: نعم، لأنني أستاذ جامعي وأمك تحمل ماجستير في الهندسة ونحن لسنا فقراء في الوقت نفسه، نحن أبناء الدولة، وإذا اختفت طبقتنا أصبحت الدولة ماكنة عاطلة، ماذا عن الفقراء يا أبي أليس هم أبناء الدولة أيضاً؟.

سكت قليلاً ثم نظر في وجهي مستغرباً من هذا السؤال، ولأن الآباء يجب أن تكون لديهم إجابة عن أي سؤال، قال لي: الفقراء أبناء الوطن”!

لا بطولة مفردة في العمل الذي بين أيدينا، إذ عملت الكاتبة على توزيعها على عدد من شخصيات حكايتها أو حكاياتها التي ضمتها دفتي الرواية، بدءاً بمن قامت بسرد الأحداث والتي حملت هموم الكاتبة ذاتها أو كانت صوتها الذي أخبرنا بمكنوناتها، إلى بيداء ونادية وباجي نادرة، وعدداً آخر من الشخصيات حمّلت كل منها هماً أو ثيمة من ثيمات الرواية، سنقرأ عن الحب حكاية وعن الحرب أخرى، سيحدثوننا عن الحالات التي تعتري النفس البشرية تلك التي قد تنزع حيناً إلى التقوقع، أو الانتحار، بينما تنحو حالات باتجاه العنف والقتل، وتنشد سواها الهروب من واقعها فتختار الرحيل بعيداً عن الوطن.

ومثل كل الفتيات حين تمر بعمر المراهقة ستقع الفتيات على اختلافهن في الحب، سيكون أحمد حب نادية، بينما تعشق الراوية فاروق، أما ميادة فمن سوى توفيق الطبيب حرياً بها، وهل على جوانا التي لم تجد حب حياتها أن تركن يائسة أبداً، ستلجأ إلى الخيال تعيش حكايتها وتصنع لحبيبها المجهول تمثالاً من الثلج سرعان ما تذيبه أشعة الشمس الحارقة. كما ستذيب الأيام قصص الحب الأخرى التي تنتهي غالبيتها بالفشل وتشتت شمل الفتيات.

سيخيب الأمل بفاروق، أما “باجي نادرة” التي تركت العمل للاعتناء ببيتها وزوجها “شوكت” فسرعان ما يستيقظ يوماً ليجدها وقد رحلت إلى القرية حيث أهلها، تتطور الأحداث وتزداد الضغوط وبوادر الحرب تلوح في الأفق ما يدفع الكثير من العائلات إلى مغادرة البلاد بعد أن عهدت بمفاتيح بيوتها إلى “عمو شوكت” الزوج الذي سوف يسترد حياته بعد أن بات وحيداً، من خلال تنفس ذكريات أصحاب المنازل التي اعتنى بها على أكمل وجه، ويتخذ لنفسه الكلب الذي تركه أصحابه في أحدها صديقاً جديداً لن يفارقه، تتبدى لديه قدرات التنبؤ بالمستقبل، يطلق عليه اسم برياد ويؤنس كل منهما وحدة الآخر، ولن يكون مصير ميادة سوى أن تلقى حتفها بطلق ناري من مسدس على يد شقيقها الذي ركب الموجة السائدة وانضم إلى صفوف المعارضة ليفاجئ الجميع بعد حين بالعودة إلى صورة رجل دين ملتحٍ يبيح لنفسه الاعتداء على أبناء بلدته من العقائد الأخرى، ويضع يده على ممتلكاتهم باسم الدين.

بعد أن انتهت الحال إلى فوضى إثر سقوط الحكم، يبدأ ظهور الغرباء في المكان يقتحمون البيوت المهجورة ويحتلونها بكل وقاحة “، وبعد أيام احتل ناسٌ غرباء بيت أم ريتا ورموا تمثال العذراء خارج المنزل وأعادوا ترميم البيت ولونوا جدرانه بألوان فاقعة وكتبوا على الواجهة؛ هذا من فضل ربي”.

وتضيف وهي مستنكرة “لقد وهبهم الربُّ بيتاً واسعاً بحديقة جميلة، إن هذا الرب الذي تفضّل عليهم بهذه النعمة العظيمة بالتأكيد ليس هو نفسه الرب الذي كانت تصلي له أم ريتا وتوقد له شموعها طلباً لغفرانه ورحمته، وليس هو الرب نفسه الذي كانت جدتي تتوسله أن يحمينا من الصواريخ، ليس هو الرب نفسه الذي كانت أم علي تقف في باحة بيتها وتدعوه كل مساء، إن ربهم الذي وهبهم من فضله بيتاً جاهزاً حتى بذكرياته، لم يمتلكوا فيه طابوقة واحدة، هو في الحقيقة إبليسهم”.

ما بين الحقيقة والخيال، ما بين الموت والحياة ستلتقي بأبي أحمد الذي سيخبرها أن هارون الرشيد قد بنى بغداد، ستصحح له المعلومة:

– لكن بغداد بناها المنصور؟!

– هارون الرشيد فكرة بغدادية، حلم من أحلام أهلها “بغداد هارون الرشيد” حكاية ترويها المدينة عن نفسها، ليس مهماً الخطأ والصح في هذه الحكاية.

هكذا تختلط الأزمنة ويكسر منطق تسلسل الأحداث حتى أن كسرى بات يقوم بخدمة نبوخذ نصر في أحد مطاعم المدينة الحديثة، بينما يقف هارون الرشيد مع شارلمان، ويدمَّر تمثال الجنرال مود على يد الخليفة المعتضد بالله، لتغدو الرواية التي دارت أحداثها في إحدى مناطق بغداد برمزيتها وغرائبية أحداثها، سردية للعراق بكل مكوناته وما حل بهم، والحلم هو مَطية الراوية يعيدها إلى الواقع حيناً ومنه إلى الحلم حيناً آخر والعكس صحيح، حلم جيل كبير أن تعم الإنسانية وتسود هذا الكون العدالة.

شهد الراوي كاتبة عراقية ولدت في بغداد عام 1986، حيث أكملت دراستها الثانوية وانتقلت مع عائلتها إلى سورية حيث أتمّت دراستها الجامعية في كلية الإدارة، وتدرس حاليا الدكتوراه في الأنثروبولوجيا والإدارة الحديثة و”ساعة بغداد” هي روايتها الأولى التي نشرتها في العام 2016.

بشرى الحكيم