السلطة-إسرائيل.. الانهيار المحتوم لعملية أوسلو
ماهر الشريف
مؤرخ من فلسطين
بات هناك إجماع اليوم بين الفلسطينيين على أن “عملية أوسلو” فشلت؛ فهذه العملية التي كان من المؤمل أن تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة بعد خمس سنوات من حكم ذاتي محدود، ولّدت آليات جديدة للسيطرة داخل المناطق الفلسطينية المحتلة، وأعادت صوغ الاستعمار الاستيطاني، وعمقت تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي. ونتيجة هذا الفشل، وانسداد أفق السلام، تغيّرت موازين القوى في الساحة الفلسطينية، وحدثت تحوّلات على بنية النظام السياسي الفلسطيني، الذي نشأ على قاعدة “اتفاق أوسلو”، وصارت تبرز، بين الفلسطينيين، أصوات تدعو إلى حل السلطة الوطنية الفلسطينية وإلى إعادة النظر في هدف الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي تمسكت به الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
ترجع مسؤولية فشل “عملية السلام” إلى عوامل أربعة رئيسية، هي بحسب أهميتها: عدم استعداد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؛ وعدم نزاهة “الوسيط” الأميركي في المفاوضات؛ وضعف الحركة الوطنية الفلسطينية؛ وتكاثر النكبات العربية وتراجع مركزية القضية الفلسطينية عربيا.
صراع وجودي لا حل له
لقد نجحت الحكومة الإسرائيلية، بفضل “اتفاقات أوسلو”، في حل معضلة عويصة جابهتها منذ انتصارها في حرب حزيران 1967. فـ “إسرائيل” صارت تضم فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب فلسطينيي 1948، الأمر الذي شكّل تهديدا جديا لطابعها “اليهودي”. وبدأ التفكير، منذ مشروع إيغال ألون سنة 1967، بإقامة كيان فلسطيني مكوّن من كانتونات منعزلة مع وظائف سيادية محدودة، بينما تتخلى إسرائيل عن إدارتها المباشرة لهذا الكيان وعن مسؤولياتها إزاء سكانه الفلسطينيين. وقد اختار إسحاق رابين وشمعون بيرس هذا الخيار، ووافقا على التفاوض حوله مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي خرجت ضعيفة ومحاصرة سياسيا وماليا من أزمة احتلال العراق للكويت، وكانت تحظى بتأييد واسع في المناطق الفلسطينية المحتلة تسمح لها بتمرير الاتفاقات. بينما راهنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على أن “اتفاقات أوسلو” ستخلق، لأول مرة في التاريخ، وجوداُ قوميا للشعب الفلسطيني فوق أرض وطنه، معتبرة أن عوامل السيادة الفلسطينية يمكن أن تتجمع شيئا فشيئا، وأن الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة في وسعه أن يتطور، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، إلى دولة فلسطينية مستقلة. من الصحيح أنها لم تتجاهل صعوبة المفاوضات التي ستدور حول قضايا الحل النهائي، كالقدس واللاجئين والحدود والمياه، إلا أنها قدّرت أن قبول الحكومة الإسرائيلية، في نهاية الأمر، بإدراج هذه القضايا على جدول أعمال المفاوضات، بعد أن كانت قد أصرّت على أن يتقدم كل طرف بالموضوع الذي يراه مناسبا دون التزام من الطرف الآخر، يلزم الإسرائيليين بضرورة بحث هذه القضايا، من جهة، ويمكن أن يرسم ملامح المرحلة النهائية، من جهة ثانية.
بيد أن كل التنازلات التي قدمتها قيادة منظمة التحرير، بما في ذلك قيامها في الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في مدينة غزة ما بين 22 و25 نيسان 1996، بإلغاء مواد “الميثاق الوطني” التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة “إسرائيل” يومي 9 و10 أيلول 1993، لم تفلح في تمهيد الطريق أمام مهمة إجلاء القوات الإسرائيلية عن كامل الأرض الفلسطينية المحتلة وتطوير الكيان الوطني الفلسطيني الوليد وصولا إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. بل أدّى رفض إسرائيل الوفاء بالتزاماتها، واستمرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في فرض حقائق جديدة على الأرض، إلى خلق شروط اندلاع انتفاضة جديدة، في نهاية أيلول 2000، وخصوصا بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في تموز 2000، بين ياسر عرفات وايهود باراك، في التوصل إلى حلول لقضايا الوضع النهائي.
معركة من أجل الحياة
ومنذ مطلع الألفية الثالثة، برزت في “إسرائيل” “صهيونية جديدة” اتسمت بطابع قومي وديني، وأشاعت أن الصراع مع الفلسطينيين هو صراع وجودي لا حل له إلا بفرض الاستسلام الكامل على الشعب الفلسطيني، وأن على المجتمع الإسرائيلي أن يعيد تربية الجيل الفتي بـ “روح حرب 1948” ويعزز “الإجماع القومي”. وقد ترافق ظهور هذه “الصهيونية الجديدة” مع تراجع جميع الظاهرات “الانشقاقية” التي شهدها المجتمع الإسرائيلي في التسعينيات، كظاهرة “المؤرخين الجدد” و”علماء الاجتماع النقديين” و”ما بعد الصهيونية”، ومع اضمحلال حركة السلام، كما ترافق مع تراجع التأييد للديمقراطية ومؤسساتها في المجتمع الإسرائيلي، وإعلاء شأن الطابع اليهودي للدولة، كما يدل على ذلك “قانون أساس: “إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي” الذي بدأ الكنيست بمناقشته، والذي ينص على تعريف “إسرائيل” بصفتها “دولة الشعب اليهودي”، ويعتبر أن حق تقرير المصير لا يتمتع به سوى هذا “الشعب”، ويرمي إلى تهميش مكانة العرب الفلسطينيين في “إسرائيل” وشرعنة العنصرية الممارسة إزاءهم.
وفي ظل هذه “الصهيونية الجديدة”، لم يكتفِ حكام “إسرائيل” في التنكر لشروط السلام العادل مع الفلسطينيين، وإنما قاموا كذلك بشن أربع حروب على الضفة الغربية وقطاع غزة، كان آخرها على قطاع غزة في صيف 2014، وذلك استنادا إلى قناعة مترسخة لدى هؤلاء الحكام فحواها أن الصراع مع الفلسطينيين هو صراع وجودي لا حل له إلا بفرض الاستسلام الكامل على الشعب الفلسطيني. وهو ما أعلنه صراحة في سنة 2014 رئيس الحكومة الإسرائيلية “الليكودي” بنيامين نتنياهو في حوار مغلق مع كُتّاب إسرائيليين، نظمته صحيفة “هآرتس”، وذلك عندما سأله الكاتب والسينمائي إتغار كيريت عن الحل الذي يتصوره للصراع في الشرق الأوسط، فقدم نتنياهو “جواباً طويلاً، تطرق فيه إلى التهديد النووي الإيراني وإلى حالة عدم الاستقرار التي يواجهها العديد من الأنظمة في المنطقة”؛ وأمام إلحاح الكاتب على ضرورة الحصول على رد واضح منه، اعترف نتنياهو – كما يكتب كيريت – بأنه “لن يفعل شيئا لحل هذا النزاع، لأنه نزاع لا يمكن حله”.
وبغية فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى كسر إرادة هذا الشعب في المقاومة، ومنعه من الاستمرار في نضاله من أجل حقوقه الوطنية. وهذا الهدف، تبيّن بوضوح خلال الاجتياح الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية في سنة 2002، في إطار العملية التي أطلقوا عليها اسم “السور الواقي”. فخلال تلك العملية، صرّح رئيس هيئة أركان قوات الاحتلال الإسرائيلي آنذاك الجنرال موشيه يعلون، أن المطلوب هو “كي الوعي الفلسطيني”، حتى “يعرف الفلسطينيون في أعماق وعيهم أنهم شعب مهزوم”. وصار تعبير “كي وعي الفلسطينيين” يعني، في الدعاية الصهيونية، كسر إرادة المقاومة لديهم، وإلحاق هزيمة معنوية دائمة بهم، من خلال نشر ثقافة الرعب والخوف بين صفوفهم وإشعارهم بالعجز الدائم. ويستعيد الضابط السابق في قوات الاحتلال يهودا شاول، الذي شارك في عملية “السور الواقي”، أقوال موشيه يعلون هذه، فيكتب في مقال نشره في صحيفة “لوموند” الفرنسية بعنوان: “إسرائيل تهاجم، بينما هي تزعم أنها تدافع: التدخل في غزة لن يحل شيئاً” ما يلي: “كان موشيه يعلون، في سنة 2002، رئيسا لهيئة الأركان، وطالبنا بالعمل على كي الوعي الفلسطيني، وأرسلنا، من أجل تحقيق ذلك، لمعاقبة السكان الفلسطينيين، من منطلق القناعة بأن المدنيين لن ينتفضوا إذا تعاملنا معهم بوحشية، وعلى اعتبار أن الوعي الذي نكويه سيغدو وعياً هلعاً”. ويتابع الضابط نفسه قائلا: “وفي إطار هذا”الردع”، تعاملنا مع كل فلسطيني على أنه عدو، وعلى أنه هدف مشروع كي نهاجمه. وكان علينا أن نرهب السكان المدنيين كي يشعروا بأنهم تحت سيطرتنا. وكنا أحيانا “نردع” الإرهاب من خلال فرض عقاب جماعي على فلسطينيين أبرياء”.
واشنطن: تصفية القضية الفلسطينية
تتحمّل الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية كبرى عن انسداد أفق السلام في الشرق الأوسط. وقد انتقلت صراحة، بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 2017، من نهج “إدارة الأزمة” إلى العمل على تصفية أهم مكوّناتها وهما قضية القدس وقضية اللاجئين. فخلال الأشهر القليلة الماضية، اعترفت تلك الإدارة بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني واتخذت قرارا بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، كما قررت خفض المساهمة المالية التي تقدمها إلى منظمة “الأونروا”، التي توفر خدماتها إلى أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني، وصارت تتساوق مع الدعوات الإسرائيلية إلى تصفية هذه المنظمة الدولية تمهيداً لاستبعاد قضية اللاجئين الفلسطينيين نهائياً من أية مفاوضات مستقبلية، كما صارت تهدد بوقف مساهمتها في تمويل ميزانية السلطة الفلسطينية ما لم يعد الفلسطينيون إلى المفاوضات وفقا للشروط الإسرائيلية. والواقع، أن نهج تصفية مكوّنات القضية الفلسطينية بدأ مع إدارة جورج بوش الابن، إذ قامت هذه الإدارة بعد انتهاء عمليات الجيش الأميركي في العراق، في 30 نيسان 2003، بتقديم “خطة “خريطة الطريق” بهدف التوصل “إلى حل الدولتين للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني”. وبينما وافقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على هذه الخطة، وضعت حكومة أرييل شارون “الليكودية” 14 تحفظاً عليها وعملت جاهدة من أجل إجهاضها. وعوضاً عن أن تتصدى الإدارة الأمريكية لهذا الموقف، كافأت حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي برسالة ضمانات قدمها جورج بوش الابن، في 14 نيسان 2004، إلى أرييل شارون، ومثّلت تراجعا عن كل المواقف التي تبنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ سنة 1967، إزاء قضية اللاجئين الفلسطينيين وقضية الحدود والمستوطنات. فبعد أن أكد الرئيس الأمريكي، في تلك الرسالة، ترحيبه بمشروع “فك الارتباط” مع قطاع غزة الذي ينوي أرييل شارون تنفيذه وجدد التزامه بالحفاظ على أمن “إسرائيل”، اعتبر أن الحل “العادل والنزيه” لمسألة اللاجئين الفلسطينيين سيكون “من خلال إقامة دولة فلسطينية وتوطين اللاجئين فيها بدلا من توطينهم في إسرائيل”، وأن حدود إسرائيل “الآمنة والمعترف بها” يجب أن تراعي “الوقائع الجديدة على الأرض، بما فيها مراكز التجمعات السكانية الرئيسية الموجودة في إسرائيل”، على اعتبار أنه من غير الواقعي “أن نتوقع أن تكون نتيجة المفاوضات النهائية عودة كاملة إلى خطوط الهدنة لسنة 1949”.
وبعد أن جمدت إدارة الرئيس جورج بوش الابن مساعيها “السلمية” نحو ثلاث سنوات، سعت إلى إحياء تلك المساعي عندما طرحت مبادرة “رفع العتب” الأخيرة في أنابوليس في 27 تشرين الثاني 2007، وذلك في قمة دولية هدفت، بحسب منظميها، إلى وضع “الأساس لإقامة دولة جديدة، دولة فلسطينية ديمقراطية تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل بأمن وسلام”، وذلك عبر “إطلاق مفاوضات ثنائية فورا للتوصل إلى اتفاقية سلام، وحل جميع القضايا العالقة، بما فيها جميع القضايا الجوهرية بدون استثناء”. بيد أن “عملية السلام” التي تجددت في “قمة انابوليس” كانت محكومة بالفشل سلفا “ليس فقط لأنها افتقرت إلى رغبة حقيقية وتحضير جيد، بل لأنه كان واضحا منذ البداية أن إسرائيل لا تنوي معالجة القضايا الجوهرية [للصراع]”، وأن الإدارة الأمريكية ستمتنع عن ممارسة أي ضغط جدي على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد إيهود اولمرت، التي أعلنت “بناء آلاف الوحدات السكانية الاستيطانية الجديدة بعد بضعة أيام من انعقاد تلك القمة”. وبعد انتخاب مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما للرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني 2008، توهم كثيرون في المنطقة والعالم أن حل الصراع العربي – الإسرائيلي بات وشيكا، وخصوصا في ضوء المواقف “الإيجابية” التي أعلنتها إدارته الجديدة. فقد أعلنت وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون التزامها “بالعمل من أجل الحل القائم على أساس الدولتين”، بل ذهب رئيسها إلى أبعد من ذلك، في خطاب ألقاه في جامعة القاهرة في حزيران 2009، وذلك عندما أعلن أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تدير ظهرها لتطلعات الفلسطينيين المشروعة “في الكرامة وإقامة دولتهم الخاصة”، وذلك بعد أن تحمّلوا “آلام النزوح على مدى أكثر من ستين عاما”، مؤكدا أن بلاده “لا تقبل مشروعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية، وأن عمليات البناء في المستوطنات تنتهك الاتفاقات السابقة وتقوّض جهود السلام”، ومعتبرا أن القدس يجب أن تكون “وطنا دائما لليهود والمسلمين والمسيحيين يتعايشون فيه بسلام”. لكن لم تمضِ سوى أشهر قليلة على ذلك الخطاب، حتى تراجعت إدارة باراك أوباما عن مطالبتها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد “الليكودي” بنيامين نتنياهو بالوقف الكامل للاستيطان، تمهيدا لاستئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، وصارت تمارس، عوضا عن ذلك، ضغوطاتها على الرئيس الفلسطيني محمود عباس كي يقبل باستئناف المفاوضات “من دون شروط”، وعادت إلى اعتماد نهج الإدارات الأمريكية التي سبقتها، إزاء “عملية السلام”، وهو نهج يقوم على تغليب الشكل على الجوهر في هذه العملية: فالمهم أن تبقى “عملية السلام” حية، وليس المهم أن تعمل الولايات المتحدة الأميركية على توفير شروط نجاحها بما يفضي إلى سلام عادل ودائم. وكانت آخر خطواتها على هذا النهج “المبادرة” الفاشلة التي تقدم بها وزير خارجيتها الجديد جون كيري في تموز 2013 لاستئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية بغية التوصل إلى “اتفاق سلام نهائي” خلال تسعة أشهر، وذلك بعد الزيارة التي قام بها باراك أوباما إلى الشرق الوسط في شهر آذار من العام نفسه.
ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية
بعد اندلاع الانتفاضة الثانية ورحيل ياسر عرفات في ظروف غامضة في تشرين الثاني 2004، الذي كان بمثابة “الصمغ اللاصق” للحركة الوطنية الفلسطينية، بدأ يطرأ تحوّل على موازين القوى داخل الساحة الفلسطينية، خلق مع الوقت، وخصوصا بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، حالة من ازدواجية السلطة. ففي إطار سياستها الرامية إلى ضم أكبر قدر من الأرض الفلسطينية واستبعاد أكبر قدر من الفلسطينيين، بلورت حكومة أرييل شارون في سنة 2004 خطة “فك الارتباط” الأحادية الجانب مع قطاع غزة، الذي كان يضم نحو مليون ونصف مليون فلسطيني، ولا يقطنه أكثر من 7000 مستوطن، موزعين على واحد وعشرين مستوطنة، تلقي على عاتق الحكومة الإسرائيلية أعباء عسكرية ومالية كبيرة. وهدفت هذه الخطة، كما ذكر مدير طاقم ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى “منع انطلاق عملية سياسية [ذات جدوى] مع الفلسطينيين” والحؤول “دون قيام دولة فلسطينية” وإحباط “الحاجة إلى تفكيك أي مستعمرة [في الضفة الغربية]”.
والواقع أن “فك ارتباط” “إسرائيل” بقطاع غزة كان من أبرز الأسباب التي دفعت قيادة حركة “حماس” إلى إعادة النظر في موقفها من مبدأ المشاركة في انتخابات تجري في ظل “اتفاق أوسلو”. فعشية الانتخابات التشريعية التي جرت، في كانون الثاني 1996، لانتخاب مجلس الحكم الذاتي، أعلنت حركة “حماس” مقاطعتها الانتخابات، لأنها “تجري تحت سقف اتفاق أوسلو”، كما ذكرت، وتلغي “حق أكثر من أربعة ملايين لاجئ فلسطيني في الشتات، بحصرها المشاركة بأبناء الضفة الغربية وقطاع غزة”، معتبرة أن صلاحيات المجلس المنتخب ستبقى “رهينة لسلطة الاحتلال”. وجاء إعلان حكومة أرييل شارون عزمها الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، الذي أعقب رحيل ياسر عرفات، ليشجع قادة “حماس” على المشاركة في الانتخابات التشريعية التي جرت في كانون الثاني 2006. وكما يلحظ علي الجرباوي، فقد حصلت “حماس” “على تأييد انتخابي أكثر مما أرادت، وانتقلت إلى وضعية الاضطرار إلى قيادة النظام السياسي دون المرور بمرحلة انتقالية لإعادة التأهيل”.
وأدّت تلك الانتخابات إلى خلق استقطاب ثنائي في الساحة الفلسطينية وإلى تضييق المساحة، الضيّقة أصلا، التي يشغلها التيار اليساري الذي عجز عن بلورة قطب ثالث، نتيجة عوامل موضوعية وذاتية في آن معا، من أهمها عجزه عن إدراك التغيّرات التي طرأت على بنية المجتمع الفلسطيني بقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي تمثّلت في تطبع الاقتصاد الفلسطيني بطابع ريعي، وتعاظم حجم العاملين والمستخدمين في أجهزة السلطة الأمنية والإدارية، وتراجع ظاهرة العمل المأجور في إسرائيل بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، وعدم نجاحه في رصد ظاهرة تراجع أطر العمل الجماهيري التقليدية، مثل نقابات العمال واتحادات الطلبة ومنظمات المرأة، في مقابل تنامي دور منظمات العمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية، التي استقطبت عددا كبيرا من كوادر القوى اليسارية، فضلا عن فشله في تجاوز تناقضاته الثانوية وتوحيد صفوفه، الأمر الذي جعل قواه تبقى مرتهنة للقطبين الآخرين الرئيسيين: حركة “فتح”، من جهة، وحركة “حماس”، من جهة ثانية. ونتيجة رفض الحكومة الإسرائيلية مناقشة ترتيبات خطة “فك الارتباط” مع السلطة الفلسطينية، أعقب انسحاب قواتها من قطاع غزة، في أيلول 2005، نشوء حالة من الفلتان الأمني ومن فوضى السلاح، وجرت محاولات عديدة لإطلاق صواريخ نحو الخط الأخضر، ردت عليها القوات الإسرائيلية بشن اعتداءات واسعة على القطاع، كما قامت حركة “حماس” بتنظيم مسيرات مسلحة وعروض عسكرية، وتكرر وقوع اشتباكات مسلحة بين عناصر الشرطة الفلسطينية ومقاتلي حركة “حماس”، تحوّلت إلى صراع شامل، انتهى، في أواسط حزيران 2007، بقيام “حماس” بفرض سيطرتها بالقوة العسكرية على قطاع غزة، وهو ما أدّى إلى حدوث انقسام جغرافي وسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، صار يهدد وحدة الشعب الفلسطيني ويضعف نضاله الوطني التحرري، ويمكّن إسرائيل من تكريس احتلالها.
وفي ظل الاستعصاء السياسي الذي نجم عن فشل “عملية اوسلو”، و”انقلاب” حركة “حماس”، باءت بالفشل جهود إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية وإضفاء طابع ديمقراطي عليها التي بذلها رئيسها الجديد محمود عباس، الذي كان قد انتخب في كانون الثاني 2005 وحصل، على أساس برنامج إصلاحي، على نحو 63 في المئة من أصوات الناخبين. كما وصلت إلى طريق مسدود مساعي إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة تضمن فتح أبوابها أمام حركتَي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، وتمكينه من الاضطلاع بدوره الرقابي والتشريعي، وتجديد تركيبة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وترافق إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها “المظلة السياسية الجامعة” للفلسطينيين مع تعميق الانقسام بين تجمعات الشعب الفلسطيني الرئيسية الثلاثة، في الشتات، وفي المناطق التي احتلت سنة 1967، وفي المناطق التي احتلت سنة 1948. كما تسبب في تراجع الدور السياسي للاجئين الفلسطينيين في الشتات، الذين راحت تبرز بين صفوفهم ظواهر اليأس والإحباط، وراح ينمو لديهم شعور بأن حركتهم الوطنية قد تخلت عنهم وتنكرت لحقوقهم ولنضالاتهم. ونتيجة ذلك، راحت أعداد كبيرة منهم تنفض عن الفصائل الفلسطينية وتهجر العمل السياسي، كما تزايدت، في ظل تقلص خدمات وكالة “الأونروا” نتيجة الوضع المالي الحرج الذي تواجهه، ظاهرة الهجرة من المخيمات إلى البلدان الأوروبية.
تكاثر النكبات العربية
وتراجع الانشغال العربي بالقضية الفلسطينية
توقع الفلسطينيون، عقب انطلاق الحراكات الشعبية التي شهدها عدد من الدول العربية، اعتبارا من أواخر سنة 2010، أن القضية الفلسطينية ستستعيد وهجها القومي، وشعروا بأنهم أصبحوا على أعتاب مرحلة جديدة في مسيرة قضيتهم “تحمل في طياتها بذورـ بل براعم، تغيير موازين القوى وتباشير اصطفافات جديدة سيكون الفلسطينيون وقضيتهم الرابح الأول والأكبر منها، بعد أن تمسك الشعوب العربية بزمام إرادتها وناصية كلمتها”. بيد أنه تبيّن سريعا أن قضية فلسطين – وعلى الرغم من بعض الحوادث المعزولة مثل رفع الأعلام الفلسطينية في بعض التظاهرات الشعبية – غابت عن خطاب هذه الحراكات الشعبية، التي اتخذت طابعا عفويا في الأساس، ولم يكن للأحزاب والحركات القومية واليسارية أي دور في تأطيرها، وافتقدت البرامج السياسية الواضحة، مكتفية بشعارات عامة تنشد الحرية والعدالة والكرامة. كما تراجعت مكانة القضية الفلسطينية في الإعلام العربي، إذ صارت وسائله تركّز، بوجه خاص، على الحراكات الشعبية في الدول العربية. والواقع أن هذه الحراكات الشعبية لم تفتح، وخصوصا بعد أن برزت في إطارها الحركات الإسلامية “التكفيرية”، آفاق حدوث تغييرات جذرية سياسية واقتصادية واجتماعية، بل راحت تتطبع بطابع طائفي ومذهبي أو اثني، وتتخذ شكل صراعات دموية عرّضت لخطر التمزق النسيج المجتمعي لدول عربية عديدة وهددت بالتفكك وحدة كياناتها، وجعلت النظام الرسمي العربي، المنقسم على نفسه، يعيش أشد حالات الضعف والشلل التي شهدها عبر تاريخه، وحوّلت المنطقة العربية، تحت شعار محاربة “الإرهاب”، إلى ساحة للصراع الإقليمي وللتدخلات الدولية. وكان من الطبيعي أن يستغل حكام “إسرائيل” هذا الواقع العربي المتردي للإمعان في مشاريعهم الرامية إلى القضاء نهائيا على القضية الفلسطينية وللترويج لحل “إقليمي” للصراع يتنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية، مستفيدين في ذلك من حقيقة أنه لم يعد هناك اليوم إجماع عربي على أن إسرائيل، وسياسات حكامها العدوانية والاحتلالية، هي التي تمثّل التهديد الأكبر للأمن القومي العربي. ففي ظل تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، صار بعض الأنظمة العربية، وخصوصا في منطقة الخليج، يرى في هذا النفوذ “الخطر الأكبر” الذي يتهدده، وبات لديه بالتالي استعداد، مضمر غالبا ومكشوف أحيانا، للتحالف مع “إسرائيل” في مواجهة هذا النفوذ الإيراني والسير على طريق تطبيع العلاقات معها. ومن جهة أخرى، تركت هذه الحراكات الشعبية، وما استتبعته، تأثيرات سلبية مباشرة على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصا في سورية. فبعد مرحلة استقرار دامت نحو 65 عاما، انقلبت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في هذا البلد رأسا على عقب منذ صيف سنة 2012. ولم تفلح خطابات النأي بالنفس التي تبنتها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في حماية هؤلاء اللاجئين، بعد أن استباحت القوى “التكفيرية” بعض مخيماتهم التي شهدت معارك عنيفة وخاصة مخيم”اليرموك”، أدّت إلى مقتل أكثر من 1500 فلسطيني ونزوح نحو 15 في المائة من مجمل فلسطينيي سورية إلى خارجها، في حين بقي مثلهم تقريبا داخل المخيمات، ونزح الباقون إلى مناطق أخرى في سورية وخصوصا في العاصمة دمشق. وتشير الإحصاءات غير الرسمية إلى دخول ما يزيد عن 53715 لاجئا فلسطينيا من مخيمات سورية إلى لبنان حتى نهاية شهر كانون الثاني 2013، استقر معظمهم عند أقارب لهم في مخيمات لبنان، وخصوصا في مخيم عين الحلوة في منطقة صيدا، أو عند عائلات لبنانية فتحت لهم بيوتها، أو في مراكز إيواء مؤقتة. بيد أن سيل هذا النزوح من سورية إلى لبنان توقف بعد قيام السلطات اللبنانية، في أيار 2014، باتخاذ إجراءات مشددة لمنع الفلسطينيين القادمين من سورية من دخول لبنان. كما تمكنت آلاف قليلة من هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين من النزوح إلى الأردن، على الرغم من الإجراءات الصارمة التي اتخذتها السلطات الأردنية لمنع دخولهم إلى أراضيها، استقرت أعداد منهم في “مخيم الزعتري” للاجئين السوريين دون الكشف عن وثائقهم الفلسطينية. ومن ناحية أخرى، استفاد عدد من اللاجئين الفلسطينيين من القرار الذي اتخذته السلطات المصرية، في بداية الأزمة السورية، بالسماح باستقبال اللاجئين الفلسطينيين من سورية من حملة الوثائق مؤقتا، وذلك قبل أن تتراجع عن قرارها هذا، ويصبح من المتعذر السماح لفلسطينيي سورية السفر إلى مصر من مطار بيروت، بطلب من السلطات المصرية. وتتحدث الأرقام عن وصول نحو 250 عائلة من فلسطينيي سورية إلى قطاع غزة قادمة من مصر. وقد غامرت بعض عائلات اللاجئين الفلسطينيين بحياة أفرادها في قوارب الموت وعلى المعابر الدولية، فنجح بعضها في الحصول على اللجوء في أحد البلدان الأوروبية، وخصوصا الاسكندنافية، بينما ابتلعت مياه البحر الأبيض المتوسط بعضها الآخر.