الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فوضى الروح

سلوى عباس

تأخذنا الحياة من ذواتنا وتغرقنا في تفاصيلها، فنبقى أسرى متطلباتها ولهوها بنا نركض ونركض ولا نلوي إلا على تعب يجعلنا في منأى عن لحظة نقترب فيها من أرواحنا، نتنسم عبق وجودنا لنستطيع بعدها مواصلة لهاثنا وركضنا للحاق بأعباء أثقلت كاهلنا وأبعدتنا عن فسحة نستريح فيها من تعب الأيام، فينتابنا الخوف والتردد والإحباط، وينغص حياتنا ليجعلنا أسرى سلبية تشل حركتنا وتبعدنا عن رؤية ما هو جميل في الحياة. في هذا الزمن المشحون بالكآبة والحزن والذي يجرجرنا في خيباته وتداعياته نرى أنفسنا على مفترق الحياة كما شجرة تهزها الريح مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال، تقتلنا الفوضى التي تضج في أرواحنا، ويستيقظ نهارنا باكراً لنبدأ سباقنا اليومي الذي نرسمه حلماً نعبر به مسار الزمن.. نسابق الثواني لنلحق بلحظة تُقرّبنا منه..

هكذا تمضي بنا الحياة، نقضي أيامنا في الركض واللهاث، دون اعتبار منّا لما قد يعترضنا من مفاجآت وعقبات تؤخّر بلوغنا إياه، إذ فجأة نكتشف مأساة أننا كائنات بشرية غير قادرة على الطيران، فنشهد ابتعاد المسافة بيننا وبين ما نركض لأجله، تنتصب في وجهنا جبال من رهبة العجز، ويتملكنا إحساس مرير بالانتظار وترقّب لحركة الوقت، وارتجافات عقارب الساعة تحسب علينا كل ثانية تمر، وتتلبسنا حالة من الارتباك وصعوبة الحركة، وتتداخل اللحظات المتواترة بين عجزنا عن اللحاق بالدقائق التي تتسرب من عمرنا وبين التواءات الطرق ووعورة المسالك، وتتوافد أسباب ومنغّصات كثيرة لتغلق علينا خطواتنا وتسدل على اتجاهاتنا آلاف السدود، وكأننا أسرى امتحان متاهات لا ندري كيف سنخرج منها، وكل ما نقدر عليه هو أن نتابع ركضنا لنصل قبل انقضاء الزمن المقرر، ذلك الزمن المرهون بدقات الثواني التي تقرع أجراسها في آذاننا، فنبقى مرصودين لعذابات الوقت الذي ينسرب سريعاً، ويترك في أيدينا حرارة الرمل ويرسم وجهنا بالغبار.

هي الحياة لغز مغلق على أسراره.. ليبقى الانتظار حالة يعيشها كل إنسان بطريقته والغاية التي ينشدها من انتظاره في مكان مستباح وفاقد للخصوصية لا يمكن فيه إلا أن يكون الانتظار إلا حالة هروب من واقع مهزوم وأرواح موجوعة تنشد الأمل بتحقق أحلامها.. فكم نحتاج من الاحباطات لندرك القليل عن بديهيات الحياة.. لنعرف أن العمل والحياة الشخصية منفصلان، وأننا نقرأ على الورق كم ينبغي أن نخوض من التجارب حتى لو وصلت بنا إلى حافة الموت، وحينها فقط ندرك أننا لم نزل أحياء، وفي لحظة من تعب اللهاث نركن إلى أرواحنا نتلمس وهن قلوبنا التي أضناها الركض، ثم نقضي وقتاً طويلاً من الخيبة قبل أن نلتقط نفسنا الأول في نهاية يومنا،.فنلوذ إلى هدأة ليلنا نرسم آفاق يوم جديد، نرتّب فيه جدول احتياجاتنا، عسى أن نوفق في تأمينها وهكذا دواليك تمر أيامنا لنقف على عتبة العمر منهكين، ومع ذلك نعود ونبدأ من جديد لعل حلماً آخر يرتسم في أفق آخر كان غائباً عنا. هي الحياة قطار يسافر الناس فيه وكل ينزل في محطة عساه يلقى أحلامه الهاربة من ذاته  ويستبشر بأمل تحققها.. فهل لانتظارنا من حلم عسانا نحققه.