الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

المطر الأسود

حسن حميد
تكاد الحيرة تلتهمني، فلا أستطيع إبعادها أو تنحيتها، كما لا أستطيع ابتلاعها أو مؤاخاتها لأن طعومها حامضية وسامّة، وأشواكها شواعيب من حديد مسنون! وسبب هذه الحيرة هي هذه المواقف الزئبقية للمثقفين الذين قال عنهم لينين: إنهم الأكثر قدرة على التبرير! وسبب هذه المواقف المنحدرة مثل سيل طام هو الاتهامات التي لا أسانيد لها والتقولات الآتية من المشفوه الذي يقال في الشوارع، والمقاهي، وجلسات النمنمة بحق الأدباء، والمؤسي فيها أنها اتهامات تطال قيمة النبل والإبداع والأخلاق، وليس من دافع لتبنيها سوى غياب المعنى الأخلاقي الذي تربّينا عليه جميعاً في البيوت والمدارس ومناولة من الكتب وتجارب الحياة!
ولا أريد هنا الوقوف عند المواقف الزئبقية المتحولة في أوقات الانفعال أو الاستدارة الاضطرارية، وإنما أريد الوقوف عند بعض التوجهات الفكرية التي لعبت ببعض الكتّـاب والأدباء ودعتهم إلى أمرين اثنين، أحدهما: القطيعة مع الآخر أياً كانت رؤاه وألوانه وأهميته الإبداعية ومصداقيته الوطنية لأنه ليس من اللون الفكري المنشود، وثانيهما: احتضان كل من يوافقهم في اللون والتوجه حتى لو كان باهتاً رخواً في الكتابة والإبداع والمواقف! ومن أجل هذين الأمرين ارتكبت الموبقات والشرور، ونصبت الأفخاخ والأشراك، وحفرت الخنادق، للوأد والطي من دون وجه حقّ! فماذا كانت النتيجة؟! كانت.. أن من تمت مقاطعته من أهل الأدب والإبداع والتعبير.. لحقت به أذيات عطّلت فعاليته الأدبية والإبداعية زمناً طويلاً إلى حد اقتناع الآخرين أنه ليس من أهل الإبداع والكتابة، لأن الصحف والمجلات قاطعته وأهملت نصوصه، ولأن النقاد نحّوه وزلّوه، ولأن الجهات القارئة ارتابت في ما كتب! إن أدباء مثل نزار قباني، وكوليت خوري، وغادة السمان، وسلمى حفار الكزبري، وعبد الله عبد، وعبد السلام العجيلي، وياسين رفاعية، وعمر أبو ريشة، وجبرا إبراهيم جبرا، وأحمد شوقي.. اتهموا بشتى التهم، فلم تسأل عنهم المنابر، وأقلام النقد، ولا الجامعات.. ومع ذلك ظلّوا من أهل النيافة الأدبية، والحضور الإبداعي، والجماليات التي لا تأتي بها إلا المواهب الفذة! قوائم سود كثيرة اشتملت على أسمائهم، كي لا تُقرأ أو تُدرس، أو تكون في موضع الانتباه والسؤال، ومع ذلك، وعلى الرغم من القطيعة الشائنة، ظلّوا هم من يمثلون الإبداع الأصيل بعيداً عن التصنيف الاجتماعي، والجندري، والسياسي!
أقول كل هذا كي أصل إلى ما بدأتُ به، وهو الحيرة التي تأكل من رأسي، لأشير إلى أنني أرى الآن، ومنذ وقت، التأرجح الزئبقي الذي يمارسه بعض المثقفين اليوم الذين ظنّوا أن الزمان ممحاة محت أدوارهم في توزيع القوائم التي اشتملت على الأسماء التي ذكرتها آنفاً بوصفها قوائم سوداً، أراهم يعقدون الندوات، والملتقيات، والمحاضرات من أجل الحديث عن نزار قباني، وعبد السلام العجيلي، وعبد الله عبد، وجبرا إبراهيم جبرا.. مادحين لأعمالهم، بعد أن قالوا عنها، وطوال عقود، إنها كتابات ذات مطر أسود.. كي يبعدوها! ولماذا يحدث هذا؟! يحدث لأنهم تبنوا ثقافة التشويه والتنحية، ويحدث لأن الأصالة والموهبة والوعي والروح الوطنية والثقافة الحقة مكّنت هؤلاء المبدعين الذين وردت أسماؤهم في القوائم السود من تخطي أشراكهم الظالمة؛ أشراك الزمن والنفوذ والإيديولوجيا!
والحق أن حيرتي لا تقف عند هذا الأمر فحسب، وإنما تتعداه كي تكبر وتستطيل لأن هؤلاء الذين اعتادوا على ترذيل الآخرين ما زالوا على عادتهم اليوم فهم يشوهون الأسماء الأدبية والفنية وفق مقياسهم الظالم ماضياً وراهناً.. ولهذا أقول إن مقولة (مطرهم الأسود) لن تنال من صفاء الإبداع وأهله لأنها هي المطر الأسود!

Hasanhamid55@yahoo.com