رسائل صامتة ؟!!
تبدو الأدوات الحسيّة ذات مقدرة عالية على تغيير مواقف البشر وأمزجة الرأي العام عموماً.. هي حقيقة ربما لم تعد خاضعة لاستثناءات كثيرة، لا سيما هنا في المضمار العربي، حيث زحام الفشل المعزز بالقرائن المؤكدة لعقم محاولات محاكاة العقل.
في خضم هذه الاستنتاجات المسنودة بشواهد واقعيّة حيّة، بات علينا أن نصدّق ونسلّم بالفعالية العالية لما يمكن أن تحمله شحنة معلبات كونسروة مثلاً.. أو بضعة صناديق من عبوات زيت الزيتون الممهورة بخاتم “صنع في سورية”، من رسائل مؤثّرة في وعي المتلقي العربي، وكان لافتاً ومفاجئاً أن تتحوّل إلى ناقل رشيق لحقائق ووقائع بالغة الإقناع، أكثر بكثير من قنوات الضخ الإعلامي مهما كانت احترافية الرسالة حاضرة والتقنيات الوسيطة دقيقة وصادقة!!.
بالفعل مريعة هي حالة الانكفاء والارتداد التي مُنيت بها رسائل الإعلام الرصين، في زمن “الحراك السلبي” في الشارع العربي، أمام الضيق الشديد في دائرة التلقّي الواعي، التي خضعت لحالة استحواذ غير مسبوقة فعلاً لصالح “ميديا الغرائز”، وبرامج اللعب على خصوصية الدافع الفطري التي تفضي دوماً إلى نهايات دمويّة… والشواهد راسخة ربما لن يغفلها كتّاب التاريخ.
في سياق مثل هذه الخلاصات “الافتراضية الكئيبة” بجانبها المتعلق بسنوات الحرب على سورية، تبلورت حزمة قناعات مشوّهة في الشارع العربي، مفادها أن “سورية مدمّرة”، ومظاهر الحياة فيها غدت مجتزأة.. وكان مريباً فعلاً أن نكون بحاجة لأن نلوذ بالأدوات الحسيّة لتغيير مثل هذه القناعات، فإما زيارة وفد إلى دمشق، أو إحدى المدن السورية، يعاين ويتلمّس مظاهر الحياة، ثم يعبّر عن صدمته بالتباين بين الواقع والتصوّر المسبق، وإما فعالية كبرى من طراز معرض دمشق الدولي، أو معرض سوري من المعارض الجوّالة التي تطير بالمنتجات السورية إلى ما وراء البحار، كأدلة إثبات أن سورية بخير.
لقد كان مشهد “التظاهر” الجماهيري في مدينة بنغازي الليبية، أمام مقر معرض المنتجات السورية، متماهياً إلى حد التطابق مع مشاهد “الفورات الشعبية” التي ألّبها الإعلام في شباط 2011، مع فارق المناسبة والهدف.. جمهور احتشد بشكل من شأنه أن يترك ألف سؤال وسؤال عن الدافع، وإن اختلفت التأويلات، فثمة إجماع على أن الأشقاء الليبيين جاؤوا إلى حيث الدليل المادي على أن سورية “الشقيقة العطوف” التي تأبط العالم لها شراً، مازالت بخير وتتعافى على قيود البقاء والنماء، تنهض بشموخ من ركام “رماد إعلامي” أعمى الأبصار، وشتت البصيرة.
وقبلها كان المشهد المشابه في بغداد.. بالفعالية ذاتها التي حققت زخماً جماهيرياً كان بالفعل مفاجأة سارّة، ازداد بعدها عدد الرحلات الجويّة بين سورية والعراق بمعدّل ثلاثة أضعاف وأكثر، وعادت متوالية تدفق الزوار للمقاصد تجارية وسياحية.
يبدو أن منظمي هذه المعارض المفعمة بالإشارات الإيجابية، قد التقطوا رجع صدى رسائلهم بشكل جيد، وأعدوا لسلسلة جديدة ستكون حلقتها التالية في الخرطوم، وبعدها في الجزائر ثم الأردن، مدركين – بحرفيتهم لا بنظرياتهم – أن “عبوات صنع في سورية” غدت الحامل الأهم لمهمة وطنية ونبيلة خاصّة، تستهدف كسر الحصار، وفتح بوابات استشراف آفاق جديدة للحضور السوري في المضمار العربي، وهذه لم تعد مهمة محصورة بوزارة الاقتصاد، أو اتحاد المصدرين، أو غرفة صناعة دمشق، بل ثمة تكامل مطلوب بإلحاح على مستوى تنظيم المعارض الخارجية، وتمويلها ودعمها وتسويقها، لأنها ليست مجرد “بقجة تاجر سوري” ينوي إفراد بضائعه في أسواق الغير.
ناظم عيد